حِكم الحجّ ومنافعه وآثاره وبركاته وخيراته لا يمكن عدّها ولا حصرها، وإنّما نرتشف من بحرها غُرفًا على قدر المقام وعلى وفق الحاجة، وفي ذكر الله عزّ وجلّ المنافع في سياق الكلام على فرض الحجّ إشارة إلى ضرورة التّنبّه إلى المنافع الجليلة العظيمة التي ينالها الحاج في دينه ودنياه: “وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ”. يقول العلامة ابن عاشور: وقوله: “ليشهدوا” يتعلّق بقوله “يأتوك” فهو علّة لإتيانهم الذي هو مسبّب على التأذين بالحجّ فآل إلى كونه علة في التأذين بالحجّ.ومعنى “ليشهدوا” ليحضروا منافع لهم، أيّ ليحضروا فيحصّلوا منافع لهم إذ يحصل كلّ واحد ما فيه نفعه. وأهم المنافع ما وعدهم الله على لسان إبراهيم عليه السّلام من الثواب. فكنّى بشهود المنافع عن نيلها. ولا يعرف ما وعدهم الله على ذلك بالتعيين. وأعظم ذلك اجتماع أهل التوحيد في صعيد واحد ليتلقي بعضهم عن بعض ما به كمال إيمانه. وتنكير “منافع” للتعظيم المراد منه الكثرة، وهي المصالح الدينية والدنيوية، لأنّ في مجمع الحج فوائد جمّة للنّاس لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكلّ حاج، ولمجتمعهم، لأنّ في الاجتماع صلاحا في الدنيا بالتعارف والتعامل”.ومن أهم المنافع التي تجنى من الحجّ المنافع التربوية التهذيبية، بدءًا من تقوية الإيمان وتطهير النفوس وتزكية الوجدان وتنقية القلب وإحياء الضمير، وصولا إلى تهذيب السّلوك وتحسين الخلق وتنمية التواصل وغرس التّحاب وتشجيع التعاون وتجسيد الأخوة.وأحسب أنّ من أهم فوائد الحجّ التربوية تعويده الحجيج على قِيم نحن بأمسّ الحاجة إليها، واكتسابها يعدّ مكسبًا ضروريًا للتحرّك من وَهدة التّخلف التي غرقنا فيها، هذه القيم التي يغرسها الحجّ في المسلمين هي الانضباط والنظافة والنظام، ولا يخفى أنّ هذه المعاني المهمة تعاني مجتمعاتنا المسلمة معاناة شديدة بسبب افتقادها لها في الكثير من أبنائها، إذ يقابل هذه المعاني ما يضادّها من اللامبالاة والفوضى وقلة النّظافة أو انعدامها....أمّا التربية على الانضباط فهي ظاهرة في كل أحكام المناسك الانضباط بالمواقيت في الإحرام، الانضباط بترك الممنوعات في الإحرام، الانضباط بأحكام الحرمين، الانضباط بالوقت في أداء المناسك.. وهكذا.وأمّا التربية على النّظام فهي أظهر، ذلك أنّ أحكام الحجّ كلّها منظمة تنظيمًا بديعًا، ولا بدّ للحاجّ من مراعاة هذا التنظيم، بدءا من اختيار كيفية النّسك تمتّعا أو إفرادا أو قِرانا إذ لكلّ نسك منها أحكامه، مرورا بباقي الأركان والأحكام، المبيت في مِنى، ثمّ الوقوف بعرفة، ثمّ المبيت بالمُزدلفة، ثمّ أعمال يوم العيد الرّمي ثمّ النّحر ثمّ الحَلق ثمّ الطّواف وما فيه من نظام بديع يتبعه السّعي بين الصّفا والمروة بترتيب دقيق، ثمّ المبيت في مِنى أيّام التّشريق، وتنظيم رمي الجَمرات رمي جمرة العَقَبَة الكبرى وحدها يوم العيد، ثمّ رمي الثلاث أيّام التّشريق، الصّغرى ثمّ الوُسطى ثمّ الكبرى بهذا الترتيب، والدّعاء عند الصّغرى والوسطى دون الكبرى. وهلّم جرّا.وأمّا التربية على النّظافة فهي شعار الإسلام في كلّ أحكامه، ومنها شعيرة الحجّ، ومن المعلوم أن من سنن الحجّ الاغتسال للإحرام، والاغتسال لدخول مكّة، والإحرام بلباس طاهر نظيف، وعلى الحاج أن يحافظ على طهارة ونظافة لباسه وجسده ومكانه.. وهلّم جرّا.إلاّ أنّ ثمّة ملاحظة مؤسفة، هي أنّ أكثر الحجاج لا يهتمون بنظافة المكان، ولا يبالون بما يخلّفونه من مخلّفات وفضلات، خاصة يوم عرفة ويوم العيد وأيّام مِنى، برميهم الفضلات كيفما اتّفق، وقد يبرّرون ذلك بامتلاء السّلل والأماكن المخصّصة لها بسبب عدم رفعها في تلك الأيّام من طرف عمال النظافة، لتعذر ذلك عليهم للزّحمة الشّديدة، فيؤدّي تساهل الحجّاج في هذا إلى مناظر مؤسفة حقًّا للعاصمة المقدسة في تلك الأيّام المباركة، وهذا ما لا يليق بضيوف الرّحمن في بيته المعظم، بل لا بدّ من الحرص على النظافة حرصًا شديدًا وتدبّر أمر الـمُخلفات والفضلات، فلا يليق بحاجّ أن يشرب أو يأكل ثمّ يرمي الأكياس أو الأكواب أو القارورات البلاستيكية في الطريق تحت أيّ عذر وتحت أيّ مبرر. فالحجّ طهارة للروح وطهارة للحياة كلّها.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات