يعتقد المحلل السياسي، حسني عبيدي، أن إزاحة الجنرال توفيق من المشهد تمثل تحديا إضافيا للرئيس ومحيطه، لأنهم لن يتحججوا بعد اليوم بتعدد مراكز القرار السياسي والاقتصادي. ويوضح عبيدي، لـ”الخبر”، أن بوتفليقة “حقق حلمه الأول: توقيع قرار إقالة توفيق، وبقي الثاني: مغادرة قصر المرادية وهو رئيس للجزائر”.ماذا تعني إحالة الجنرال توفيق على التقاعد وما هي تداعياتها السياسية على الجزائر (إيجابياتها وسلبياته)؟كان بالإمكان أن تمر هذه الإقالة دون أن تحدث ضجيجا. لكن كونها تحصل في نظام سياسي مغلق وتستهدف أحد المكونات الأساسية لهذا النظام، يجعل منها منعطفا سياسيا بامتياز. ولأن النظام السياسي في الجزائر ومنذ الاستقلال بني على المقاربة الأمنية، فإن خروج المسؤول الأول “حارس الكهف” عن المنظومة الأمنية يكتسي أهمية بالغة. بمعنى أن الجنرال توفيق، بحكم الفترة الزمنية التي قضاها على رأس الأجهزة، ترك بصماته على كل شيء: العقيدة الأمنية واختيار الرجال وطبيعة الولاء وطريقة إدارة شؤون البلاد.وتمثل إزاحة توفيق تحديا إضافيا للرئيس ومحيطه. فالقطب الرئاسي ممثلا في بوتفليقة لن يتحجج بتعدد مراكز القرار السياسي والاقتصادي. إنه مطالب بمشروع للمجتمع يمهد لدولة يحميها دستور جامع يضمن الاستقرار الأمني والتوزيع العادل للثروات والمشاركة السياسية.التحدي الثاني يكمن في قدرة الرئيس على إعطاء نفس جديد للجهاز الأمني، ليكون مؤسسة تحفظ أمن الدولة وليس أمن النظام ورموزه.هل إقالة توفيق تعني أن ما بني حوله كان وهما أم أن الرجل كان فعلا صاحب القرار في الجزائر؟لم يكن لا وهما ولا أسطورة. لكن لأي شخصية نافذة ومتنفذة في القرار صلاحية زمنية لا بد أن تنتهي. أسباب ذهاب الجنرال كانت متوفرة منذ فترة، لكنه استطاع تجاوز المكائد والأفخاخ وبقي في المنصب، الأمر الذي حتم على مناوئيه تغيير إستراتيجيتهم بدل التركيز عليه شخصيا، عملوا على إضعاف محيطه وتقليص مهامه وتجريد جهازه من صلاحياته التي جعلت منه “أسطورة”. تكمن قوة توفيق في قدرته على التحكم عن بعد، لكن بعد حرمانه من جهاز التحكم،(سلطاته) لم يبق له سوى الانصراف.لم يكن هناك صوت يعلو فوق “الدياراس” لأن الأخيرة أحكمت تغلغلها في دوائر الحكم من البلدية النائية إلى قصر الجمهورية، وبسبب رداءة المشهد السياسي الرسمي وعجز المعارضة، أصبحت مديرية الأمن الجهة الوحيدة المتاحة سياسيا واقتصاديا وأمنيا. أصبح هو الحكم وهو المعارضة.لذلك فإن إقالة مدير المخابرات تحتم توفر “المقاربة الغائبة” متمثلة في الشرعية الدستورية التي شرعنت صلاحيات جهاز توفيق ومكنته من الاستمرار. في الجزائر قراءتان حول تنحية توفيق. الأولى أنها تأتي في إطار إعادة هيكلة عادية للمخابرات والثانية تنطلق من وجود صراع بين الرئاسة والمصالح. إلى أي منهما تميل ولماذا؟لا تناقض بين القراءتين. تحت مسمى إعادة الهيكلة وتحديث الجهاز أمام التحديات الأمنية الجديدة، استطاع الرئيس تحييد الرجل الذي كان يشكل كابوسا له. كل المؤشرات تدل على أن صراعا بين الرئاسة كقطب في الحكم ومديرية الأمن كان على أوجه منذ زمن، مع فترات ود وتقارب وفترات عتاب وجفاء. عودة الرئيس من مستشفى فال دو غراس كانت بمثابة التحول في العلاقة نحو معركة كسر العظام، عرفت مشهدا غير مألوف بالخروج المنظم والعلني لأمين عام الأفالان ضد الجنرال توفيق. هكذا تحقق لبوتفليقة الحلم الأول: توقيع قرار إقالة توفيق، وبقي الثاني: مغادرة قصر المرادية وهو رئيس للجزائر.هل في توقيت إحالة توفيق على التقاعد دلائل معينة؟أعتقد أنه لا يجب المبالغة في حجم إقالة الجنرال توفيق. سنقع في مأزق الانتصارات الوهمية. لم يكن توفيق يشكل كشخص تهديدا لبوتفليقة. لكن استمرار الانسداد السياسي في الجزائر وغياب الرئيس ومعه أي رؤية حقيقية مع تغوّل أصحاب النفوذ وضبابية عملية صناعة القرار في محيط الرئيس، إضافة إلى تغييرات في المؤسسة العسكرية والأمنية، تشكل سيناريو مخيفا لمحيط الرئيس. لأنه وضع يشجع على تغيير مفاجئ في هرم السلطة أو انقلاب أبيض، خاصة أن الوضع الاجتماعي والاقتصادي في الجزائر منذ انهيار أسعار النفط متجه نحو مرحلة حرجة.من جانب آخر، تأكد أن مرحلة الإعداد لما بعد بوتفليقة بدأت. هذه المرة دون توفيق وبضمانات قوية بعدم التعرض لمحيطه. توفيق رحل عن المشهد السياسي في صمت مثلما بدأ مشواره، لكن من المؤكد أنه لن يكون آخر من يرحل. اختيار خليفة توفيق من داخل الجهاز. إلى ماذا يشير؟لا يمكن للرئيس إحداث قطيعة نهائية في الجهاز الأمني. لذا فهو لن يجازف بثورة قد تؤدي إلى نتائج غير مرتقبة. لكن عامل الثقة والولاء لعب دورا هاما في التغيير. تبقى طبيعة الضمانات المتبادلة بين توفيق وخليفته والرئيس لغزا ومسألة معلقة. هل تسير الجزائر اليوم إلى الدولة المدنية؟لا يمكن للرئيس ومحيطه الاكتفاء بتسويق إقالة توفيق كعربون للدولة المدنية. هل توصل بوتفليقة إلى “المقاربة الغائبة” التي بها فقط يمكن للجزائر أن تحافظ على أمنها وسيادتها، وأن تعالج أزماتها الاجتماعية والاقتصادية التي تلوح في الأفق؟ الدولة المدنية لا تعني اجتثاث أصحاب البدلات العسكرية بقدر ما تعني من إصلاحات هيكلية في منظومة الحكم تمر عبر بوابة دستور توافقي وتناوب على السلطة يمهد لبناء مؤسسات قارة.فترة بوتفليقة هي فترة الفرص الضائعة لبناء دولة قوية. أضاعت فرصة مداخيل قوية، فرصة الخروج والتعافي من العشرية السوداء وفرصة شعبيته العالية في عهدته الأولى، وأخيرا فرصة التحولات التي تعرفها المنطقة العربية. الدولة المدنية ليست شعارا وإنما مسار طويل يبدأ بعدم التمديد اللامتناهي وعدم الاعتداء على الدستور (المؤسسة الأكثر استقرارا) والفصل بين السلطات واحترام المؤسسات. لكن النظام السياسي الحالي عجز عن تشخيص الحالة الحقيقية للأمة، وتم شراء السلم الاجتماعي وترحيل الورشات الحقيقية إلى حين.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات