+ -

يحرم الكثير من الأولياء خاصة في القرى والمداشر أبناءهم من الدراسة بحجة بعد المؤسسات التربوية عن مقر سكناهم، غير أن أوضاعهم الاجتماعية المتدهورة التي حالت دون تأمين مصاريف الدراسة الثقيلة، وهاجس غياب الأمن، وإقحامهم في عالم الشغل، جعل أطفالهم أميين ودون مستقبل. لم تعد “إجبارية التعليم” واجبا وطنيا وأخلاقيا بالنسبة لعديد العائلات من قرويي ولاية المدية، ليس جهلا أو رغبة في إقصاء أطفالها واستغلالهم في كسب رزقها، على غرار ما يحدث بين عائلات الرحل جراء عدم الاستقرار والبحث المستمر عن الكلأ لمواشيها.الأبجدية تكفييقول معلم من بلدية سيدي دمد جنوبي المدية التي تعد من بين البلديات العاجزة عن توفير تعليم منتظم لسكانها على مستوى الولاية “إذا تمكن الولي من إيصال ابنه إلى المدرسة، فليس بمقدوره البحث له كل يوم عن “كلونديستان” في غياب النقل المدرسي.. ولذلك أصبح واردا في ذهنية الأولياء بأن الذهاب إلى المدرسة لا يتعدى مهمة تعلم الأبجدية ليقوموا بتوقيف أطفالهم وخاصة البنات في أولى مراحل التعليم”. ويؤكد أحد سكان البلدية أن غياب النقل المدرسي حرم بنتين من عائلته من مواصلة تعليمهما بالمرحلة المتوسطة. وتشير بعض الإحصاءات المحلية إلى أن ما يعادل 200 طفل سنويا لا يتم التحاقهم بالمدرسة أو يلتحقون في سن متأخرة، إما بسبب المرض، الإعاقات، وأهم من ذلك الأوضاع المعيشية الصعبة أو العزلة عن المدارس، على غرار عينة وجدناها بمنطقة البدارنة ببلدية العمارية، شرقي المدية، بسبب عزلتها التامة عن التجمعات المحتواة على مدارس للتعليم الابتدائي. والأغرب من ذلك أن بعض العائلات وتحت شدة الفاقة تلجأ إلى المفاضلة بين أبنائها لأسباب عديدة، منها تقديم الولد على البنت.هاجس الاختطافات والاعتداءات الجنسيةلم تعد الفاقة والعزلة مانعا أمام أولياء التلميذات ببعض المناطق الغربية لولاية تيبازة، خصوصا بني ميلك، الأرهاط، ڤوراية، سيدي سميان، مسلمون وغيرها، لتمكين بناتهم من الحق في التعليم، فالكثير منهم يكتفي بالسماح لفلذة كبده بالدراسة الابتدائية فقط، ثم يحبس ابنته في البيت قبل سن المراهقة، حيث يجمع الكثير من الأولياء على أن الاعتداءات الجنسية جعلتهم يتمسكون بذهنيات العقود السابقة ظنا منهم أن ذلك سيحصن بناتهم.سألت “الخبر” ولي تلميذة كانت متفوقة وتدرس بالقسم الأول ثانوي بثانوية جلول بلميلود عن سبب منع ابنته من الالتحاق بأقسام الثانوية، فقال إن انهيار سلم القيم في المجتمع دفعه إلى منع فلذة كبده من مزاولة دراستها، وهو ما أقدم عليه الكثير من الآباء في مناطق أخرى خصوصا في مناطق جبلية ببلدية الأرهاط، مثل قرى المناجم وبني وارقشن ومشطيطة، حيث يصر هؤلاء على منع بناتهم من المكوث في الإقامات الداخلية، بسبب مخاوف من تعرضهم للضغوط، وأصبح الإخوة والأمهات لا يأتمنون الطريق على سلامة بناتهم، في ظل حوادث سابقة تتعلق بالاختطاف والاغتصاب.وقال آخر إن الكثير من الأولياء المقيمين بالدواوير الجبلية على غرار عروش بني علي، مهابة، زروقة وغيرها من القرى النائية بڤوراية، يمتلكون وسائل النقل والسيارات النفعية، غير أنهم يفضلون الإبقاء على بناتهم في البيوت تجنبا لبعض الإكراهات، خصوصا أن الأولياء يتلقفون من حين لآخر أخبار تعرض البنات للمساومة من بعض الأساتذة والمؤطرين ومن بعض التلاميذ، حيث ذكر أن مدير متوسطة تمت معاقبته قبل سنتين، تسبب في ضياع مستقبل العشرات من البنات المقيمات في مناطق جبلية بسبب تحرشه بهن، مستغلا النظام الداخلي بمؤسسته. من جهة أخرى، روى مدير متوسطة في بلدية الحطاطبة أن أحد السلفيين المتشددين المقيم بحوش “قندوري” منع شقيقاته الثلاثة من متابعة دراستهن بالمتوسطة والثانوية خلال الموسم الدراسي الماضي، وكان يستعمل معهن التهديد والعنف الجسدي واللفظي، حتى تمكن من خلال سلسلة مضايقات من منعهن من العودة إلى مقاعد الدراسية، وحينما اتصل مدير المؤسسة بعائلة التلميذات للاستفسار عن سبب توقفهن المفاجئ، أجابه الشقيق الأكبر الملتحي بأنه يسعى إلى توجيههن إلى طلب العلم الشرعي في المنزل والمسجد فقط.مرض الوالدين يحرم عائشة من المدرسةوبولاية سيدي بلعباس، ضحت العائلة بالابنة “ب.عائشة” البالغة من العمر 12 سنة بسبب مرض الوالدين، حيث أجبرت على المكوث بالبيت للإشراف على رعاية شؤون البيت، خاصة بعد إصابة الأم بمرض مزمن، ومعاناة الأب صحيا. وحسب مدير متوسطة الشهيد “بوعسرية البشير”، فإن معدلات الفصلين الأول والثاني للموسم الدراسي المنصرم بالنسبة لعائشة متوسطة بعد أن سبق وحازت على عشرة من عشرين. واعترف مدير المؤسسة التربوية بوجود حالات شاذة لعائلات تحرم أبناءها من الدراسة بمختلف ربوع الولاية لأسباب متعددة، والتي يبقى من أهمها الوضع الاجتماعي للعائلة، الذي عادة ما يرغم الأولياء على توقيف أبنائهم عن الدراسة لسد حاجياتهم.“أفضل تزويجها على السماح لها بالدراسة”عبارة قالها أحد الأولياء المنحدرين من بلدية أولاد عمار في باتنة، رافضا أن تكمل ابنته الدراسة في ظل الظروف العائلية التي يعيش بها رفقة عائلته الصغيرة واضطراره للعمل لدى الفلاحين وملاك الأراضي.تحدث لنا الوالد بمرارة عن المشاكل التي يتخبط فيها بداية بالفقر الذي يعيش فيه وعدم تحصيله قوت يومه في أيام قال إنها مرت عليه مرارة الحنظل، مضيفا أنه لا يمكنه أن يشتري لابنتيه اللوازم المدرسية أو يعطيهما مصروفا يوميا لتنقلاتهما واقتناء ما يرغبان به، وأنه يخاف أن تجرح مشاعرهما في حال أخذهما أصدقائهما على محمل الدعابة للباسهما القديم وأحذيتهما البالية.ولم يخف محدثنا بنبرة صوت هادئة ومثقلة بالأحزان، أنه يفضل تزويج ابنته الكبرى عوض تركها تعيش مأساة التنقل اليومي بشكل غير لائق أمام زميلاتها في المؤسسة التي تتمدرس بها، وهو ما توافقه عليه زوجته.  المحامي سمير بن مخلوف لـ”الخبر”“النصوص القانونية لا تردع الأولياء” يرى المحامي بمجلس قضاء سطيف، سمير بن مخلوف، أن النصوص القانونية التي جاءت بها الاتفاقيات الدولية والدستور الجزائري المتعلقة بضمان إجبارية التعليم وحماية حقوق الطفل بالالتحاق بمقاعد الدراسة، ليس من شأنها ردع الأولياء، زيادة على أنها غير معتمدة في الواقع من الأساس، ما يجعل من إدماج هذه النصوص وتفعيلها ضمن جريمة الإهمال العائلي المعاقب عليها بنصوص قانون العقوبات، أمرا حتميا وضروريا لاسيما عند ثبوت الإهمال والتقصير الأبوي دون سبب جدي أو قهري.من جهة أخرى، يقول المحامي سمير بن مخلوف إن تدهور التعليم الجزائري خاصة في بعض المناطق النائية أو الجبلية، لا يرجع أبدا إلى قلة الاعتمادات والإمكانات، بل إلى مقاومة الأهالي لفكرة التعليم لاسيما للبنات، حيث يعتبر هذا الموضوع أحد الاهتمامات الكبرى سواء على صعيد المواثيق والمعاهدات الدولية، أو على مستوى دساتير الدول وأنظمتها الداخلية، وهذا ما جسدته الدساتير الجزائرية الأربعة التي اتسمت كلها بالنص الصريح والتحديد المباشر لهذا الحق، وحظي هذا بحماية دستورية خاصة جعلت منها المصدر المباشر والأساسي لشرعيته. ولم يتوقف المشرع الجزائري عند هذا الحد، بل أكد الإجبارية بالمرسوم 66/76، حيث جاء في المادة 8 منه أن عدم مراعاة إجبارية التعليم من طرف الآباء أو الأوصياء يعتبر مخالفة يترتب عليها تقديم إنذار للآباء أو الأوصياء، وفي حال العود عقوبة غرامة مدنية، وهو ما تضمنه أيضا القانون التوجيهي للتربية رقم 14/18 في المادة 12 منه التي تنص صراحة على إجبارية التعليم مع معاقبة الآباء أو الأولياء الشرعيين المخالفين لأحكام الإجبارية بغرامة مالية تتراوح ما بين 5000 و50000 دينار. أستاذ علم الاجتماع التربوي بجامعة سطيف محمد بوقشور لـ”الخبر”“الظاهرة تفاقمت بعد اهتزاز صورة الأستاذ” أرجع الدكتور محمد بوقشور، أستاذ علم الاجتماع بجامعة سطيف 2، سبب استفحال ظاهرة منع الأبناء من الالتحاق بمقاعد الدراسة والمؤسسات التربوية إلى اهتزاز صورة الأستاذ المربي، مع تسويق حالة البؤس التي يعيشها المتعلم عموما في مخيلة المجتمع، تضاف إليها الإساءة المتعمدة للمنظومة التربوية سياسيا وتاريخيا من طرف الفاعلين في النظام الجزائري، ما ولد أسبقية حتمية لتقلد المناصب المرموقة والفاعلة للإداري والسياسي على حساب العلمي والبيداغوجي، وهو ما طرح فكرة الجدوى من التعليم أساسا لدى الأبناء وخاصة منهم الذكور الذين تراجعت معدلات نجاحهم بشكل ملفت منذ عقدين من الزمن، مفضلين إقحامهم في مجالات أخرى لمساعدة العائلة بدل تضييع الوقت، حسبهم، في الدراسة والمصاريف وغيرها.ويضيف المتحدث أن الظاهرة بحاجة إلى دراسة علمية متخصصة بعيدا عن التجاذبات الإيديولوجية، أما الحل فيكمن، حسبه، في انخراط كل المؤسسات الاجتماعية والإعلامية في مجهود جماعي لإعادة الاعتبار للمدرسة واعتبارها قارب النجاة الوحيد للخروج من هذه الأزمات.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات