+ -

يُولي المسلمون وجوههم شطر المسجد الحرام لتبرز من خلال ذلك وحدة المسلمين وجماعتهم؛ التفاف حول هذا البيت، من خلال الصلاة المفروضة، والتي تبدأ بأهل الحي وتنتهي بالتجمع الأعظم يوم الحج الأكبر. صلاة الجماعة قاعدة وأساس، ففي حديث أبيِّ بنِ كعبٍ رضي اللّه عنه في قوله صلى اللّه عليه وسلم: “صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلما كثر فهو أحب إلى اللّه”. والمؤذن للصلاة هو داعي الجماعة، يقول عمرو بن أمِّ مكتوم: جئت إلى رسول اللّه فقلت: يا رسول اللّه كنت ضريرا شاسع الدار، ولي قائد لا يلائمني، فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ قال: “أتسمع النداء”؟ قال: قلت: نعم، قال: “ما أجد لك رخصة”.وصلاة الجمعة صورة ليس لها نظير في تجمع يجمع على الصلاة والموعظة والنصيحة ومعالجة القضايا، ليتأكد استمرار الجماعة على الجادة الراشدة. وشعائر العيدين تجمع مشهود، يحضره الرجال والنساء حتى ربات الخدور؛ جماعة وبهجة في ظل الالتزام بخلق الإسلام، ويأتي التجمع الأخطر والاحتفاء الأكبر، حين يؤذَّن في الناس بالحج: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}.إنه تجمّع عظيم لا يعوقه اختلاف الألسنة والألوان، ولا تشعب الأعراق وتباعد الأوطان، فعقيدة الإسلام في سهولتها وفطرتها، وقِبلة المسلمين في قداستها، تؤكّد هذا الرِّباط الوثيق من الأخوة والوُدّ، لينطقوا جميعًا بلسان عربي مبين: “لبّيك اللّهمّ لبّيك”، فهم جميعًا في موقف العبودية للّه وحده: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}.إنّ ارتباط المسلم ببيت اللّه وبالقِبلة ليس مقصورًا على أشهر معلومات، ولا محصورًا في أيّام معدودات، ولكنّه ارتباط دائم، ووشائج لا تنقطع، فالمسلم يبدأ يومه ويستفتح عمله كما يختم نشاطه بالتوجّه إلى البيت، حين يقف بين يدي ربّه قائمًا، يؤدِّي الصّلواتِ الخمسَ موزَّعةً بانتظام في يومه وليلته، ينتظم مع إخوانه المسلمين حيثما كانت مواقعهم، وأينما كانت ديارهم، فبيت اللّه المحرَّم هو الوجهة الدّائمة الّتي ترافق العبد المؤمن في كلّ حياته، ليس مرتبطًا بموسم، ولا محصورًا في فريضة، بل حتّى حين يُوَسَّد في قبره دفينًا، فإنّه يُوجَّه إلى البيت الحرام، فهي قبلته حيًّا وميتًا. ولنتأمّل هذه الآيات الثلاث، قول اللّه عزّ وجلّ: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}، ولنتأمّل قوله سبحانه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، وقوله سبحانه: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}. فيا ترى ما هو السرّ في التِّكرار لمعظم هذه الكلمات في هذه الآيات؟!لقد أُمر النّبيّ باستقبال البيت في هذه الآيات ثلاث مرّات وأُمِر المسلمون مرّتين، وتكرّر قوله سبحانه: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} ثلاث مرّات، وتكرّر تعميم الجهة ثلاث مرّات، ما ذلك كلّه إلاّ لتأكيد عِظَم هذا التّوجّه والتّنويه بشأن استقبال الكعبة المعظمة، تقريرًا للحقّ في نفوس المسلمين، {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}. فتولية الوجوه نحو البيت تقتضي الحضور الدّائم لمعاني الصّلاة والحجّ وإسرارهما، وكلّ عبادة مرتبطة باستقبال هذا البيت المعظم.يولي المسلم وجهه شطر المَسجد الحرام ليسير مع التاريخ بماضيه، ويستصحبه في حاضره، ليتذكّر تاريخ البيت وبناء البيت على التّوحيد الخالص والمِلّة الإبراهيمية الحنيفية. يولّي وجهه شطر البيت ليرى كيف هدم الإسلام بنيان الجاهلية وقواعدها. يولي وجهه شطر الكعبة المشرفة، ليتذكّر ألوان العذاب الّتي لقيها المسلمون المستضعفون في ظلّها وعلى جنباتها، والنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول لهم مطمئنًا ومثبّتًا: “واللّه ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا اللّه  أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”.إنّه النّصر الّذي لا بدّ أن يتم بإذن اللّه من خِلال صحيح الإيمان وعَزَمات البشر، والخضوع للسنن الإلهية في النّصر والهزيمة، فكلّ هذه الاستحضارات والتأمّلات تتجلّى حين التأمّل في التوجّه نحو بيت اللّه المحرم واستقباله؛ ذلكم أنّ المقصود بالعبادات كلّها تمام الخضوع للّه: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}. واللّه وليّ التّوفيق.

إمام مسجد عمر بن الخطاببن غازي ـ براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات