تخضع عملية النشر في فرنسا، على خلاف الأفكار والتصورات السائدة، لمصالح فرنسا السياسية، إذ أصبحت النخبة المثقفة الفرنسية تساير توجهات أطراف سياسية فاعلة. وبرزت هذه الظاهرة حديثا، مع فترة حكم الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، الذي قام بتدجين هذه النخبة، وإبعادها عن تقاليد الالتزام السارترية. فمع مثقفي اليمين الجديد، أصبح المثقف الفرنسي ”مثقفا مزيفا” على حد تعبير باسكال بونيفاس، يخضع لتوجهات ترسم معالمها تحالفات سياسية وإعلامية. أثارت قضية اتهام الكاتبين الفرنسيين ”إريك لوران” و”كاترين ڤراسيت” بالفساد، بعد أن حاولا ابتزاز ملك المغرب، وطالبا بدفع 3 ملايين أورو مقابل عدم نشر كتاب قالا إنه يحتوي معلومات قد تضر ملك المغرب بصفة مباشرة، مسألة النخبة المثقفة الفرنسية التي تخلت عن تقاليد الالتزام، وأصبحت خاضعة لتوجهات سياسية أفقدتها روحها النقدية.ويشرح باسكال بونيفاس، في كتابه ”المثقفون المزيفون.. الانتصار الإعلامي لخبراء الكذب والتضليل”، بعد أن رفضته أربع عشرة دارا للنشر، هذا التوجه الجديد، واعتبر أن فرنسا المعروفة بتقاليد الحرية والانفتاح والدفاع عن القيم الجمهورية، انتشرت بها خلال السنوات الأخيرة ظاهرة ”الرقابة الذاتية” و«حماية الأقوياء”، حيث برزت نخبة مثقفة لا تأخذ طموحات الجمهور العريض بعين الاعتبار، مفضلة الاستجابة لتصورات النخبة السياسية والإعلامية.وكتب بونيفاس، الذي يشغل منصب رئيس معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية في باريس، أن ”النفاق الفكري، وانعدام النزاهة، له نجومه في فرنسا اليوم، وهم يحظون بـ«التكريس” الإعلامي ويشتركون بتغذية قدر كبير من الخوف ”اللاعقلاني” من خطر إسلامي مزعوم عبر صياغة نوع من ميل ”إسلامي متزمت” نصبوه بمثابة ”عدو مشترك” للعالم الغربي الحر. ويتغاضون عن صعود موجة العنصرية ضد المسلمين وضد العرب في فرنسا، مثلما فعل إيدوي بلينال مؤخرا، فتصب مؤلفاتهم في هذا الاتجاه بغية تكريس الكراهية، ومقت الآخر. ويعتقد بونيفاس أن انتصار هذه النخبة المثقفة المزيفة أدى إلى دق أجراس الخطر، وإلى نهاية تلك الأفكار الكبرى التي كان قد أصدرها مثقفو فرنسا الكبار من أجل الانتصار لما اعتبروه الحقيقة من أمثال فولتير وفيكتور هوغو، وإيميل زولا، وأندريه مالرو. وعاد المؤلف إلى ذلك ”العصر الذهبي” لمثقفين التزموا بقضايا آمنوا بها وعرضوا أنفسهم للخطر.وبحسب بونيفاس، فإن انعدام النزاهة الفكرية في أوساط هذه النخبة أدى إلى تبرير غزو بلد ما وتدميره كما حصل في العراق بحجة وجود أسلحة دمار شامل. أو كما يحصل الآن في البلاد العربية الرازحة في ربيعها الأسود تحت ذرائع أسلحة كيميائية أو انتهاكات حقوق إنسان أو تطهيرات عرقية.ويعتقد بونيفاس أن هؤلاء ”المثقفين” تربطهم علاقات مشبوهة بالدوائر الأمنية والسياسية، وبكونهم تخلوا عن دور”المثقف النقدي”، بالمعنى السارتري، وتحولوا إلى مرتزقة مهمتهم الأساسية النصب والاحتيال على الرأي العام من خلال الترويج لأكاذيب في قوالب ثقافية، بهدف إعادة تشكيله وقولبته وتوجيهه نحو قناعات أيديولوجية أحادية مسطرة مسبقا من قبل دوائر سياسية وإعلامية.ورغم كل هذا الزيف المنتشر في أوساط النخبة المثقفة الفرنسية، أصر بونيفاس على ذكر بعض أسماء المثقفين الذين يمتازون بالرزانة والحس النقدي، وذكر كلا من ريجيس دوبري، إدغار موران، تيزفتان تودوروف، بيد أن هؤلاء لا يحظون بمتابعة إعلامية مكثفة، مثلما يحظى بها ”المثقفون المزيفون”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات