38serv

+ -

أيمن،حمزة ونسيم، وغيرهم من الشباب في عمر الزهور، فضّلوا هجرة قراهم التي أكلتها براثن الفقر، وقرروا خوض رحلة بحث عن حياة أرقى بالجزائر العاصمة وبالمدن الكبرى بعد فشلهم في بلوغ الضفة الأخرى، فاصطدموا بواقع مرّ وظروف عيش قاسية، ورغم ذلك رفضوا الاستسلام واتخذوا البؤس حليفهم على أن يعودوا أدراجهم. بمحطة الحافلات بالخروبة في العاصمة، حيث الحركة التي لا تكاد تنقطع والضجيج  الذي يملأ المكان، يفترش حمزة ذو 17 ربيعا، الأرض رفقة أقرانه الذين لا تتجاوز أعمارهم 22 سنة، يرتدون ثيابا بالية ارتسمت عليها عظام أجسامهم النحيلة وظهورهم المقوّسة، وبوجوه عابسة ومنهكة وجدنا السجائر “تقفز” من شفة لأخرى.حل موعد تناول العشاء وشرع المشردون في التفكير كيف يسكتون نداء بطونهم، فدخلوا في رحلة البحث عن الأكل والتردد على المطاعم داخل المحطة. هنا اقتربنا من حمزة القادم رفقة شقيقه الأكبر من ولاية سوق أهراس منذ حوالي شهرين. وبمجرد حديثنا معه استرسل يسرد مغامرته قائلا: “التحقت بشقيقي منذ اليوم الثاني من العيد ولم أنعم بفراش ووسادة أنام فوقهما منذ ذلك الحين، ولا أنام سوى ساعتين من أصل 24 ساعة.أما عن تخطيطه لحماية نفسه خلال فصل الشتاء القادم، أين يزداد الطقس برودة والرطوبة تغمر المكان، فرد على طريقة المقولة الشهيرة السائدة في أوساط الكادحين “أحيني اليوم واقتلني غدا”  وقال بمرارة “أنا أفكر في اليوم ولا شيء سواه”، ثم توقف لحظات واستأنف الحديث بلهجته الشرقية “لا أخفي عليكم، لست قادرا على مواصلة الحديث فالجوع قد وصل ذروته ومعدتي تكاد تتقطع”، ونهض يسير بخطوات متثاقلة نحو مدخل المحطة، أين تتواجد أحد المحلات التي يشتغل فيها شقيقه الأكبر، علّه يحصل على لقمة تسدّ ظمأ جوعه.أجساد نحيلة تتحدى الزمن بدا لنا الأمر وكأننا أمام مهاجرين يعيشون بطريقة غير شرعية في الغربة بعيدا عن ديارهم وذويهم، عددهم يقدّر بالعشرات يفترشون الرصيف ويحومون داخل تلك المحطة التي لا يغادرونها. وها هو أحدهم لا يختلف حاله كثيرا عن حال حمزة سوى أنه ينحدر من ولاية الجلفة التي قدم منها منذ 4 أشهر. نحيل هو الآخر يجر خطاه بصعوبة بسبب إصابة رجله اليسرى. يقول أيمن صاحب العشرين سنة “كنت أشتغل بإحدى محلات الأكل داخل المحطة، أنقل المشروبات من المخزن إلى المحل مقابل 20 ألف دينار جزائري شهريا، إلا أن صاحب العمل طردني من العمل منذ أسبوع، بسبب إصابتي أثناء العمل”.ورغم إصابته وظروف العيش القاسية ومبيته في العراء وافتقاده لأي قريب في العاصمة، إلا أنه رفض العودة إلى المنزل الذي يحفظ كرامته وفضّل متابعة مغامرته بعيدا عن دفء عائلته، حاولنا معرفة السبب الحقيقي الذي دفعه إلى اختيار هكذا حياة،  فرد قائلا “قبل 4 سنوات وقع لي حادث كلّفني 4 سنوات سجنا نافذة، فقررت بعد خروجي من السجن الابتعاد عن تلك المنطقة وسكانها”.المعذّبونولعل المحظوظين من الشباب الذين صادفناهم في المحطة، هم الذين فازوا بمنصب عمل بإحدى المحلات التي تبيع مختلف المأكولات أو المقاهي، كونهم يعملون ويتقاضون راتبا متواضعا ويستفيدون من وجبة غذاء وعشاء من صاحب المحل، كما أن صاحب المحل يوفّر لهم غرفة نوم مكدسة بأمثالهم ممن يشتغلون لديه يفوق عددهم 15 شخصا داخل الغرفة الواحدة.نسيم أحد هؤلاء، قادم من ولاية ميلة، يقول إن الغرفة التي ينام فيها شبيهة بقاعة سجن، وتفتقد لأدنى شروط النظافة والصحة، لكنها تبقى أحسن من افتراش “الكارتون”. أما عن إمكانية زيارة أهله بمناسبة عيد الأضحى خلال الأيام القليلة القادمة، رد بأنه مصمم على إجراء زيارة، إلا أن صديقه محمد القادم من ولاية سعيدة، حرّك رأسه وعقّب على كلامه بلهجة ساخرة قائلا: “هذا إن تقاضيت راتبك” واسترسل محمد موجّها إلينا كلامه “صاحب المحل الذي يشتغل فيه أعرفه جيدا وغالبا ما يحرم عماله من أجرهم، وأذكر يوما قام أحدهم بكسر واجهة محله كتعبير عن غضبه ورفضه للظلم”، ولكن للأسف يواصل “تم إلقاء القبض عليه وزُج به في السجن”. تلقّف نسيم كلمات صديقه بأسف، ومن دون شك راودته أفكار يائسة واقتنع بأن المجد لا زال بعيد المنال، وعليه الاستسلام والانضمام إلى فئة المستضعفين، أو ربما العودة يوما إلى الديار.عالم آخركانت الساعة تقارب الثانية صباحا عندما بدأ الهدوء يملأ المحطة  وبدأت تتضح صورتها ورحل ضجيج المسافرين الذين كان يعج بهم المكان، وما إن أشارت العقارب إلى الثانية صباحا حتى أغلقت أبواب المحطة، وسرعان ما انتشر أفراد الشرطة لإخلاء المكان وطرد باقي المسافرين. انتقلنا إلى محطة سيارات الأجرة المحاذية لمحطة الحافلات فاكتشفنا عالما آخر ومسلسل حياة جديدة أبطالها شباب وفتيات في سن الزهور.كانت الشابة عائشة مفترشة على الأرض، وغير بعيد عنها تجلس نسيمة ذات 27 ربيعا والقادمة من ولاية ورڤلة على الرصيف، وها هي نريمان منتفخة البطن تتحرك غير بعيد عنهما ومريم و... ونحن نمر بين السيارات ترامى إلى سمعنا نبأ قاصرة هربت من المنزل فلجأت إلى ذلك المكان للاحتماء والمبيت معهم. وكان يحوم حول المحطة شباب اتضح من ملامح لهجتهم بأنهم ينحدرون من الأحياء الشعبية غير البعيدة عن الخروبة من الحراش أو باش جراح وحسين داي، كان دورهم توفير الأمن وحماية الفتيات من بطش الوحوش الذين يراقبونهن عن كثب.اقتربنا من عائشة ورفيقاتها واستمعنا لحكاياتهن واحدة بواحدة واستخلصنا في الأخير أنه ورغم قدومهن من ولايات مختلفة وتنوع الأسباب التي دفعت بهن إلى الشارع، سواء كانت ضحية إرهاب أو تم طردها من طرف زوج أمها أو كحكاية نسيمة المثيرة للشفقة بعد أن ضحى بها شقيقها نزولا عند رغبة زوجته الماكرة، إلا أن المعاناة والتشرد كانا قاسما مشتركا لهن. وعن كيفية توفير الأكل والملبس يوميا تقول عائشة دو العقد الثالث “المشكل لا يكمن في الأكل والشرب بل في سقف نحتمي به من بطش الطبيعة وافتراس الوحوش البشرية”، أما عن سبب عزوفهن عن المراكز التي توفر لهن الأمن قالت “إنها شبيهة بالسجن والأوضاع بداخلها لا تختلف كثيرا عن الشارع”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات