عادت “الخبر” لتقتفي آثار جريمة نكراء لا يزال أهالي بلدية بوخنيفيس الهادئة جنوب غربي ولاية سيدي بلعباس يتذكرون رعبها، بعد قرابة خمس سنوات كاملة من وقوعها. 25 سبتمبر 2010، اختطف وحش آدمي في العقد الثاني من العمر برعمة لا تتجاوز تسع سنوات ليعتدي عليها جنسيا، ويقرر فجأة وضع حد لحياتها بضربها على الرأس باستعمال آلة حادة.جريمة مقتل البريئة إكرام على يد “ج.محمد” شبيهة إلى حد بعيد بما جرى لإبراهيم وهارون بقسنطينة سنة 2013 وياسر ذي الثلاث سنوات وشيماء يوسفي التي اختطفت قبل أن يعثر عليها جثة هامدة بمعالمة بزرالدة.كانت إكرام منشغلة باللعب في محيط مقر سكن العائلة ولم تكن تعلم أن شخصا مقربا من العائلة يتربص بها.. فباغتها واختطفها وأخذها إلى مكان مهجور بجوار مجرى الوادي، مستغلا خلو الشارع من حركة المواطنين.صراخ إكرامأفادت النتائج التي خلص إليها المحققون آنذاك إلى سماع بعض الجيران لصوت ملائكي بريء وهو يطلب النجدة، لكن لم يجد من سارع إلى الشارع أي أثر لصاحبة الصوت، وكانت الغريزة الحيوانية للجاني أسرع من أن تضبطها الأعين.فهول الفاجعة حرك كل أهالي بوخنيفيس للمشاركة في عمليات بحث، وفشلوا في اقتفاء أثر الضحية، وفي الليل ظلّت أنوار بيوت الحي حيث تقطن العائلة موقدة، في دلالة على أن الجيران عجزوا عن النوم من هول الفاجعة التي حلت بعائلة مرابط التي بقيت يقظة، لعل وعسى أن تستقبل خبرا سعيدا من شأنه أن يخلصها من جحيم اختفاء فلذة كبدها آملة رؤيتها من جديد.مفاتيح الجريمةسمحت الشكوى التي رفعها رب عائلة مرابط ببوخنيفيس لدى مصالح الدرك الوطني المختصة إقليميا بتأكيد ما كان مفترضا في المساء، حين رسم المختصون تعرض الطفلة إكرام للاختطاف. وفي أعقاب ذلك طوّق رجال الأمن البلدية بأكملها في ظرف ساعات وجيزة، دون أن يعثروا على أي معلومة تفيد ببقائها على قيد الحياة. فأبواب الأهالي والجيران طرقت كلها من دون أن يحصل المحققون ومعهم أفراد العائلة المفجوعة على أي خبر “مفرح”، ما أرغم مصالح الدرك على تجنيد كل طاقاته إقليميا أملا في وضع حد للغز المحير. وكانت كل المعطيات تصب وسط شكوك راودت رجال الأمن بتواجد مفاتيح الجريمة غير بعيد عن مسرحها، لتبدأ التحقيقات مع أقرب المقربين باستعمال كلاب بوليسية مدربة.جثة إكرام مهشمة الرأسفاجعة أليمة.. كارثة.. الكل يهرع إلى مجرى وادي “مكرة” المار ببلدية بوخنيفيس. السبب كان العثور على جثة الطفلة إكرام هامدة وعلى جسدها آثار تعنيف. لقد عثر عليها مهشمة الرأس وملطخة بالدماء.. مشاهد مروعة.. الكل يبكي ويندب حظ البرعمة، غير أن الطوق الأمني والبحث المكثف كشف الغطاء عن الحقيقة، فإكرام وجدت مرمية وبجانبها غطاء قطني ومجرفة استعملها الجاني لردم جثة الضحية في الأرض وطمس آثار الجريمة، بعد استعانته بتلك الآلة الحادة لتوجيه ضربات قوية صوب رأس الضحية وقفصها الصدري.تحول المكان أو مسرح الجريمة إلى ميدان للعويل والبكاء وسط رقابة مشددة من أفراد الدرك والأمن الذين طوقوا الموقع لمباشرة جمع الأدلة والإثباتات.نباح قوي منبعث من الكلاب البوليسية وكأنها تريد التأكيد على تواجد الجاني غير بعيد عن ميدان الفاجعة. أصحاب البذلات البيضاء يباشرون عملا دقيقا ويتناوبون على جمع الأغراض والأدلة الواحدة تلو الأخرى، والمشهد كان شبيها بتلك الأفلام “الهيتشكوكية” المثيرة التي عادة ما تنتهي بالوصول إلى كشف الألغاز.الكلاب البوليسية “تتعرف” على الجانيكانت شكوك رجال الدرك وأفراد الأمن في محلها عندما رجحوا فرضية أن الجاني غير بعيد عن المحيط العائلي للطفلة، ما جعل الاشتباه يحوم حول شاب لم يكن يتعدى آنذاك الـ24 سنة من العمر، بعد أن ظهرت عليه علامات الارتباك بعد انتشار خبر اختفاء الضحية.فالأعين كانت مصوبة، ولو بطريقة خفية، صوب “ج. محمد” المقرب من عائلة مرابط، والقاطن على بعد أمتار من مقر سكن الضحية، ولقد ثبت بأنه كان يتربص بها وهي تلعب عصر يوم السبت 25 سبتمبر 2010 أمام مسكن والديها. وسرعان ما تحول الاشتباه إلى تهمة بعد أن اعترف الجاني بمجرد الضغط عليه بكل التهم المنسوبة إليه. فالجاني حُوّل مباشرة بعد توقيفه إلى مسرح الجريمة حيث بدت الكلاب البوليسية تنبح وكأنها تعرفه.وكانت خبرة المحققين قد وضعت المتهم أمام حقيقة ما اقترفه، وهو ما مهد للاعتراف ليكون سيد الأدلة بعد أن راح محمد يسرد كل الوقائع ويستخرج حتى بعض الأغراض التي استعملت في تنفيذ الجريمة من تحت وحل التراب المحاذي لمجرى الوادي.التحقيقات مع مقربي اكراملم تمنع الاعترافات التي أدلى بها الجاني لأفراد الأمن هؤلاء من توسيع دائرة التحقيقات، بعد أن حامت شكوك حول إمكانية مشاركة أكثر من شخص واحد في الجريمة. فالمساءلة شملت مجموعة من مقربي محيط الطفلة إكرام عسى أن توصل قاعدة “سين وجيم” إلى معطيات جديدة من شانها أن تميط اللثام عن شركاء محتملين.وسرعان ما تلاشت الشكوك بعد أن ثبت انفراد الجاني بالقيام بكل شيء، وذلك بدءا من لحظة الاختطاف وإلى غاية تنفيذ جريمته التي وضعت حدا لحياة طفلة بريئة. تقرر بعد نقل جثة الطفلة إكرام مرابط إلى المركز الاستشفائي الجامعي الدكتور “عبد القادر حساني” بسيدي بلعباس أن يتم الإبقاء على تقرير الطبيب الشرعي محاطا بالسرية التامة، وذلك مخافة من انفجار المشاعر السلبية المؤدية إلى الثأر بين أفراد العائلتين المقربتين من بعضهما. وتسربت أخبار مفادها تعرض “إكرام” للاعتداء الجنسي من قريبها الذي “هرب” بعيدا عن الأعين صوب محكمة بن باديس 40 كم غربي سيدي بلعباس، حيث وضع على الفور رهن الحبس. وكان “الحي الجديد” الموجود غير بعيد عن الملعب البلدي لبوخنيفيس قد تحول خلال فترة وجيزة إلى مكان تضامن فيه الجيران لتخفيف هول الصدمة على أهالي الطفلة، مع أن ذلك لم يمنع من أشرفوا على فك خيوط اللغز من الإبقاء على قوة أمنية بالحي تفاديا لحدوث توتر.تلاميذ مدرسة الضحية تحت الصدمة لم تكن العودة إلى مقاعد الدراسة بالأمر السهل على كل زملاء الضحية بمدرسة “بن حدو” التي كانت إكرام تحتل مقعدا في قسمها الثالث. فرثاء الصديقة الطيبة كان سيد الموقف وسط تفهّم كبير من المدرّسين الذين أبدوا تعاطفا كبيرا مع الأطفال الذين فقدوا واحدة من خيرة زميلاتهم بسبب غريزة حيوانية. ولم ينتظر أولياء تلاميذ المدرسة المعنية كثيرا لإعلان حالة الاستنفار بعد أن بات الموقع نقطة تجمع يومي للآباء والأمهات عند بداية ونهاية مواعيد الدراسة لاسترجاع فلذات أكبادهم مخافة المصير المجهول. جنازة إكرام مهيبة وشهدت ظهيرة يوم 29 سبتمبر 2010 جنازة مشهودة، حيث التف مئات المواطنين لمرافقة جثمان الطفلة الضحية إكرام مرابط ذات الـ9 سنوات من العمر صوب مثواها الأخير وسط أجواء مهيبة فيها الحزن بالألم.جنازة حضرتها السلطات المدنية وحتى العسكرية المختصة إقليميا وأعداد معتبرة جدا من المواطنين الذين قدموا حتى من الولايات والمناطق المجاورة لبلدية بوخنيفيس لتوديع الفقيدة البريئة، بعد إحضار جثتها على متن سيارة إسعاف تابعة لمركز سيدي بلعباس الاستشفائي الجامعي. الإعدام للجاني توجهت الأنظار بعد تسعة أشهر من حادثة مقتل البريئة إكرام إلى مقر مجلس قضاء سيدي بلعباس، حيث مثل صباح يوم 12 جوان 2011 الجاني الذي وضع حدا لحياة الطفلة إكرام بتوجيهه لضربات على مستوى رأسها وقفصها الصدري باستعمال قضيب حديدي.المتهم لم يجد أمامه مخرجا سوى الاعتراف بكل التهم المنسوبة إليه أمام هيئة المحكمة، حيث أقر بلجوئه للاعتداء الجسدي بعد أن منعته الفقيدة من الاعتداء عليها جنسيا في أعقاب اختطافها، وهو ما دفع بالنيابة العامة إلى التماس تسليط عقوبة الإعدام على الجاني قبل أن يتم تأييد الحكم. اعترافات تبعها استنكار شديد بحكم البرودة التي صاحبت تلك الاعترافات بداخل قاعة غصت بأفراد الدرك والأمن تحسبا لأي طارئ كان محتملا حدوثه وسط تلك الأجواء المشحونة. المحامي محمد فرعون“الأحكام الثقيلة حماية للأطفال من المنحرفين”يؤكد الأستاذ المحامي محمد فرعون بأن عدم التساهل في إصدار الأحكام المتعلقة بالاعتداء على الأطفال الأبرياء يعد في حد ذاته حماية لهذه الفئة من المنحرفين والمجرمين، مشيرا بأن تصاعد وتيرة اختطاف الأطفال في الجزائر قابلته جدية في البت في مثل هذه الملفات الشائكة التي عادة ما تدفع بالعدالة الجزائرية إلى إصدار أحكام تعكس بشاعة العمل المرتكب. ويرى المتحدث بأن صدور الأحكام المخففة في حق بعض الفاعلين عادة ما تأتي نتيجة معاناة هؤلاء من اضطرابات عقلية ونفسية استنادا على تقارير طبية رسمية تخضع كلها إلى المعاينة الدقيقة من قِبل مختصين في المجال: “مع أنني أجزم بعدم ثبوت سلامة الفئة التي ترتكب هذا النوع من الجرائم من أي عاهة عقلية أو نفسية، انطلاقا من إيماني العميق باستحالة إقدام أي عاقل على ارتكاب أعمال شنيعة كاختطاف الأطفال وإخضاعهم إلى أبشع صور الاعتداء والتنكيل”، كما قال. الدكتور قويدر بن حويدقة مختص في علاج الاضطرابات العقلية“الفاعل مريض نفسيا ولكنه مسؤول عن أفعاله” كشف الدكتور قويدر بن حويدقة، المختص في علاج الأمراض ذات الصلة بالاضطرابات العقلية بأن “هذا النوع من الأشخاص مصنف طبيا في خانة المرضى المعادين لطبيعة المجتمعات”، مؤكدا بأن الفئة التي تقترف جرائم الاختطاف والاعتداء على الأطفال تحديدا تبقى مسؤولة عن أفعالها إلى درجة يصل بها الأمر إلى حد عدم الإحساس بالندم من جراء ما اقترفوه.ويؤكد الطبيب المختص بأن الأبحاث سبق أن أكدت معاناة هؤلاء من مشاكل طفولة، سواء تعلق الأمر بالعائلة أو المحيط الاجتماعي، “وهو ما تعكسه صحف السوابق العدلية الخاصة بغالبية هؤلاء المرضى النفسانيين الذين عادة ما يواجه الأطباء صعوبات بالغة في متابعتهم من الناحية العلاجية بحكم مزاجهم المتقلب”.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات