ودّع، أمس، عشاق الفن الأصيل عميد الأغنية الشعبية الحاج بوجمعة العنقيس، عن عمر يناهز الـ88 عاما، بعد صراع طويل مع المرض أدخله في النهاية إلى مستشفى عين النعجة العسكري ومنه إلى مقبرة القطار، ليس بعيدا عن موطن ولادته في قصبة العاصمة.على خلفية رائعة “راح الغالي راح” التحق الشيخ بوجمعة بأقرانه من عمالقة الأغنية الشعبية، الذين ساهموا أيّما مساهمة في الحفاظ على تراث الجزائر الشعري والموسيقي، عندما ضمنوا له انتقالا آمنا بين مختلف شرائح المجتمع وعبر الأجيال. التحق بالحاج امحمد العنقى والحاج الهاشمي ڤروابي ومحبوباتي ومكرازة وعبد اللّه الڤطاف ومحمد الباجي واحسن السعيد والحاج مريزق، وغيرهم من عمالقة الأغنية الأصيلة الذين قاوموا كل أعاصير الرداءة وحققوا لنا تواصلا جميلا مع عباقرة الشعر المعتق الزلال؛ سيدي لخضر بن خلوف وابن مسايب وبن سهلة وقدور العلمي والمجذوب، فلولاهم لما وصلت آذاننا روائع بقيمة “الوفاة” و«الخلوفية” و«الغوثية” و«راس المحنة” و«المكناسية” و«يوم الجمعة” و«الحراز” والخزنتين الكبيرة والصغيرة و«الوحداني” و«كل نور” و«الفرجية”. ولد بوجمعة محمد، الملقب بـ«بوجمعة العنقيس”، ذات 17 جوان من سنة 1927 بالقصبة في قلب العاصمة، وسط عائلة تنحدر من قرية آث آرهونن في حاضنة الإبداع آزفون بالقبائل الكبرى. حصل شيخنا على شهادة التعليم الابتدائي سنة 1939، وبعد فترة قليلة قضاها عاملا لدى عمه انتقل للعمل في الضبطية القضائية لمحكمة الجزائر، حيث بقي إلى غاية سنة 1945، وهي المرحلة التي بدأ فيها شغفه بالموسيقى حين تعلم العزف على آلات وترية كثيرة كالقيثارة والموندولين. الجهل باللغة العربية فرض على بوجمعة تأجيل احترافه الغناء الشعبي حتى سنة 1957، وقبلها التحق بمجموعة موسيقية كانت تشتغل تحت جناح حزب الشعب الجزائري، بعد أن تعلم ما يكفي من لغة الضاد على يد شيخيه محمد قبايلي وشويطر. في نهاية الثلاثينيات تعرف الفقيد على فنانين كبار كالشيخ سعيد المداح الذي كان ينافس العميد مصطفى الناظور، أستاذ الحاج امحمد العنقى، على مشيخة الأغنية الشعبية. هذه العلاقة سمحت له بأول تواصل مع الجمهور عندما غنى رائعة “على الرسول الهادي صل يا عشيق” في حفل زفاف. في منتصف الأربعينيات، وبعد تردد كبير بين العملاقين الحاج مريزق والحاج امحمد العنقى، مال محمد بوجمعة إلى الثاني، واختار لنفسه لقب “العنقيس”، وهو تصغير للعنقى. وبعد فترة قضاها مؤديا لدواوين المدح الكلاسيكية المعروفة، قرر الفنان الشاب “الثائر” خوض مغامرة الأغنية القصيرة والعصرية، لكنه سرعان ما أصيب بصدمة عندما واجهه مدير دار “فيليبس” المحافظ “جدا” بوعلام تيتيش بالرفض القاطع، فقرر العنقيس التوقف عن الغناء واشتغل حارسا في إحدى العمارات. فترة الثورة التحريرية لم تكن رحيمة على الفقيد، حيث أوقف وعذب مرتين من قِبل القوات الخاصة للاحتلال، لكنها الفترة التي شهدت في نهايتها عودته إلى الفن بتأليفه وأدائه لرائعة “جانا الانتصار” التي مجد فيها مظاهرات 11 ديسمبر 1961. بعد الاستقلال مباشرة أطلق العنقيس رفقة صديقه محبوب سفر باتي، الشهير بـ«محبوباتي”، ثورة حقيقية في الأغنية الشعبية ووجهت من قِبل جيل المحافظين، وعلى رأسهم العميد الحاج امحمد العنقى، بردود فعل عنيفة، فقد اقترح على الجمهور أغان قصيرة تنطق بلغة الشعب البسيطة ولا تردد فيها عن استعمال الآلات الموسيقية العصرية. هذه الثورة الغنائية التي اشتهرت فيما بعد تحت توصيف “الطابع الخلوي” بدأها بروائع خالدة كـ«عيشي انت” و«راح الغالي راح” و«آه يا انتيا” و«مان أمان على الزمان” و«وعلاش يا كبدي وليدي وعلاش” و«خايف اللّه”، وأنهاها بروائع أخرى لمحمد الباجي كـ«بحر الطوفان” و«القيامة”. وبعد أن كان العنقيس وحيدا في مواجهة مدرسة “مالاكوف” المحافظة، نسبة إلى المقهى الذي كان يملكه العنقى في القصبة السفلى، صار مدعما بقامات شابة التحقت بالمدرسة المستحدثة، والتي حققت نجاحا وشعبية باهرين من قبيل تلميذه ورفيق دربه اعمر الزاهي والحاج الهاشمي ڤروابي واعمر العشاب ودحمان الحراشي وعبد القادر شاعو واحسن السعيد. في حوار أجريته مع الفقيد في سنة 2000 سألته عن خلفيات هذه “الثورة الموسيقية” فرد قائلا: “هي فترة اجتاحت فيها الموسيقى الغربية العصرية العالم، لم يكن أمامنا إلا أن نقترح على شبابنا حينها نوعا جديدا من الأغنية الشعبية يتميز بالخفة والسلاسة نفسها مع المحافظة على الأصل، ولولا ذلك لما نجحنا في الاستمرار أمام هجمة الروك والتويست والكونتري والبلوز والجاز”. جنازة العنقيس خرجت أمس حوالي منتصف النهار من بيته في حي سوريكال ببرج الكيفان، حيث تواجد وزير الثقافة عز الدين ميهوبي، الذي قرر الالتحاق بعائلة الفقيد نزولا عند رغبتها بإلغاء محطة قصر الثقافة وإلقاء النظرة الأخيرة من ورقة طريق سفره الأخير.. أتذكر بأنني كتبت تقريرا في رحيل المبدع الكبير محبوباتي عنونته بـ”راح الغالي راح”، ولن أجد خيرا منه عنوانا لهذا التقرير.بحضور أوتاد الأغنية الشعبيةالعنقيس يدفن بيد “الشعبي”لم تتسع مقبرة القطار، أمس، لاستيعاب جحافل المواطنين الذي هبوا لتوديع أحد أيقونات الأغنية الشعبية الجزائرية، بوجمعة العنقيس إلى مثواه الأخير.. بوجوه عكس نفوس ممتلئة بالحسرة والحزن على فنان سكن وجدانهم بروائعه وترجم حياتهم الشعبية إلى أغان استمع إليها أكثر الكادحين في الموانئ والمصانع والمحاجر من جيل الاستقلال.من مسجد النور بواد قريش بالعاصمة باتجاه المقبرة سار الموكب الجنائزي متبوعا بمئات المواطنين يهرولون للحاق بالسيارة التي تحمل نعش الفقيد، وهم يتهامسون في استحضار أيام زمان التي فيها سطع نجم العنيقس في سماء قصيدة الشعبي، وتوغلت قصائده في عمق المجتمع وسكنت آذانهم وروت تفاصيل يومياتهم.رفع السائرون في الموكب الجنائزي نعش الفقيد، والتفوا حوله صاعدين به إلى مستقره الأخير، وبصعوبة وصلوا به إليه، وبدأت مراسم الدفن والتأبين ثم قراءة الفاتحة والترحم عليه في مشهد يسوده الحزن على فراق فنان سكن ذاكرة الجزائريين إلى الأبد.لم تمنع لفحات الشمس الحارقة ونسبة الرطوبة العالية، وكذا تضاريس المقبرة الوعرة الكثير من الكهول ممن عاصروا العنقيس من الصعود معه ومرافقته إلى مثواه الأخير، رغم أن مرهقون بمتاعب الحياة، فالجمع كان غفيرا وحيثما تقلب البصر تلمح الكهول يسترجعون ذكريات صنعوها على وقع أنغام موسيقى الراحل.كان هندام من حضروا جنازة بوجمعة العنقيس يوحي بانتمائهم إلى الطبقات الشعبية العريضة، فالبذلات السوداء التي غالبا ما يرتديها الرسميون والمسؤولين في جنائز الشخصيات الوطنية المعروفة كانت غائبة تماما، وحلت محلّها بذلات مرصعة بمختلف الألوان في إيحاء بأن جلّهم من الفنانين، كما طغى الهندام الشعبي على الحضور كبدلة “بلو دو شنغاي” والقبعات السوداء “البيري” والقمصان المزركشة بمختلف الألوان التي يرتديها غالبا مستمعو وعشاق الأغنية الشعبية من البحارة والكادحين في المحاجر والمصانع والموانئ.مكث أصدقاء الشيخ العنقيس وزملاؤه من الفنانين في محيط مدخل المقبرة يتعانقون ويسألون عن أحوال بعضهم، فهذا الفنان عبد المجيد مسكود يطوف بينهم متحسرا على المرحوم ومبديا اشتياقا لزملائه، وهذا عبد القادر شاعو الذي فضّل أن يأتي أنيقا ومرتديا نظارات شمسية لإخفاء تأثره العميق بهذا الفقد، وغير بعيد عنهما كان يقف الفنان صادق جمعاوي صاحب رائعة “جيبوها يا لولاد” رافضا المغادرة في حضرة أوتاد الزمن الجميل، والموقف ذاته اتخذه الفنان المهدي طماش الذي كان يتوسط عبد القادر شاعو ويرثي العنقيس بالقول إنه ملهمه الأول سنة 1963.خارت قوى مصطفى بوجمعة نجل العنقيس وهو يتلقى تعازي آلاف الأشخاص في يوم واحد، ورغم ذلك كان يستقبل من يتهافت عليه بحرارة ويعانقهم بتلهف، وكأنه يريد أن يوصل لهم رسالة أن والده كان من رحم الشعب ولا يزال كذلك، شاكرا توافدهم على الجنازة للتخفيف من المصاب الجلل.غادر مصطفى المقبرة باتجاه المنزل وسط إلحاح الصحفيين لأخذ تصريحات تلفزيونية أو صور فوتوغرافية، غير أنه اعتذر عن ذلك لعدم قدرته على ذلك، غير أنه قال في حديث جانبي لـ«الخبر” إن المرحوم قضى الفترة الأخيرة في منطقة أزفون قبل أن تتدهور صحته قبل خمسة أيام ليتم إحضاره إلى مستشفى عين النعجة بالعاصمة ليحل موعد صعود روحه إلى بارئها.وتلخصت أوصاف المواطنين للعنقيس في أنه الفنان الذي نجح بعبقرية في استمالة الجزائريين إلى قصيده، حيث ترجم حياتهم إلى روائع وأغان ستظل راسخة في أذهانهم، وبنى لنفسه في دواخلهم صرحا لا ينهار بمرور الزمن.الجزائر: محمد الفاتح عثمانيقالـــــــوا..عمر بوجمعة شقيق العنقيس “كان شعبيا وظل كذلك” قال شقيق المرحوم، عمر بوجمعة، في حديث لـ«الخبر”، إن أخاه كان متعلقا حد النخاع بالحياة الشعبية وطبقاتها، واستمر على ذاك إلى آخر يوم من حياته، ملقيا بالكرة في ملعب الصحافة والمؤرخين للاهتمام بمنجزات الراحل في مجال الأغنية الشعبية.اعمر الزاهي صامت كعادته ولم يشذ الفنان الشهير اعمر الزاهي عن قاعدته المعروفة برفضه الحديث والتصريح للصحافة والتقاط الصور والفيديوهات معهم، إذ فضل الانزواء بعيدا عن عدسات الكاميرات، حيث يقول أنا مغني بسيط ولا أستحق كل هذا الاهتمام، غير أن علامات الحزن كانت تشع منه عن بعد، خاصة أنه تلميذ الراحل.شاعـــــو: “العنقيـــس مدرســــــة بامتيــــــاز” بدا عبد القادر شاعو متأثرا كثير بوفاة العنقيس، حيث قال لـ«الخبر”، بعد مراسم الجنازة، إن العنيقس مدرسة في فن الشعبي، بدليل أنه كان يستلهم منه الكثير من الجزئيات، مشيرا إلى أن علاقته مع الراحل وإن كانت غير عميقة ووطيدة غير أنه زاره يوم زفافه، وهو ما اعتبره شيئا جميلا.مسكود: “بوجمعة نصحنا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا” يرى مغني الشعبي عبد المجيد مسكود، خلال حديثه لـ«الخبر”، أن الراحل بوجمعة أطرب الملايين بفن جميل ومحافظ سيظل في ذاكرتنا ما حيينا، كما أنه كان شخصية فريدة من نوعها تمنح كرم الإصغاء وتسدي بالنصائح الفنية والاجتماعية، كما تمنحنا حتى الرؤية السياسية أحيانا.صادق جمعاوي.. “على السلطات الوصية الاستدراك والالتفات له” تحسر المغني والملحن صادق جمعاوي، صاحب رائعة “جيبوها يالولاد”، كثيرا على فقدان الأسرة الفنية لآخر عمالقة أغنية الشعبي في جيله، ودعا السلطات الوصية إلى الالتفاتة إلى هذا الفنان الذي قدم الكثير في السجل الفني الجزائري، وأعطى نفسا جديدا في الشعبي بإيقاعات أغنية “محبوبتي.المهدي طماش: “نهلت من إبداع الراحل سنة 1963” وتأثر الفنان المهدي طماش كثيرا على وفاة الفنان بوجمعة العنقيس، وصرّح لـ«الخبر” أنه تتلمذ على يد المرحوم ونهل من تجربته ومن ملكته الإبداعية، ما جعله يكون مبدعا هو الآخر في المجال ذاته، مشيرا إلى أنه بدأ مشواره على يد الراحل سنة 1963 حين كان في عمره 12 سنة، معتبرا أن العنقيس كان السبب في دخوله هذا العالم.وزير الثقافة عز الدين ميهوبي“الراحل نجح في تطوير الأغنية الشعبية” قال وزير الثقافة، عز الدين ميهوبي، في تصريح لـ«الخبر”، إن الجزائر فقدت قامة في الفن الأصيل، ومجدد الأغنية الشعبية الذي عمل على تطوير إيقاعاتها ونجح في إخراجها من الرتابة، وجعلها منسجمة مع ذوق الشباب، وهذا دليل على عبقريته وقدرته على الانتقال من مدرسة تقليدية الى أخرى مجددة. وأضاف المتحدث أن العنقيس عرف باحترامه لأعلام هذا الفن في الجزائر وثقافته الواسعة، وكان من بين المكرمين في رمضان الماضي بقصر الثقافة من قِبل الوزير الأول ولبى الدعوة رغم وضعه الصحي.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات