يقول الحقّ سبحانه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}. التعبير بقوله سبحانه: زينة، بيان بديع وتعبير دقيق لحقيقتهما، فهما زينة وليسَا قيمة، فلا يصح أن توزن بهما أقدار النّاس، وإنّما توزن أقدار النّاس بالإيمان والعمل الصّالح.❊ ولذا جاء التعقيب بقوله: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْر أمَلاً}. أي: أن المال والبنون زينة يتزيّن ويتفاخر بها كثير من النّاس في هذه الحياة الدّنيا، وإذا كان الأمر كذلك في عرف كثير منهم، فإن الأقوال الطيّبة والأعمال الحسنة، هي الباقيات الصّالحات الّتي تبقى ثمارها للإنسان، وتكون عند اللّه خير من الأموال والأولاد، ثوابًا وجزاء وأجرًا، وخير أملاً، حيث ينال بها صاحبها في الآخرة ما كان يؤمله ويرجوه في الدنيا من فوز بنعيم الجنّة.والباقيات الصّالحات عند جمهور المفسرين هي الكلمات المأثور فضلها، وهي: سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلاّ اللّه، واللّه أكبر، يروي الحاكم في مستدركه عنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: “خذوا جُنَّتَكم”، قلنا: يا رسول اللّه من عدو قد حضر؟ قال: “لا، جُنَّتَكم من النّار، قولوا: سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلاّ اللّه، واللّه أكبر، فإنّهن يأتين يوم القيامة منجيات ومقدّمات، وهنّ الباقيات الصّالحات”، ومعنى كونها باقيات صالحات أي: أنها من حرث الآخرة.إنّنا لفي حاجة إلى تحصيل الباقيات الصّالحات، ففينا من الضعف والخواء، والضيق والوحشة، وكثرة الهذيان واشتغال اللّسان بما لا طائل من ورائه، ما نحتاج إلى استشعار الباقيات الصّالحات، يقول أبو هريرة رضي اللّه عنه: مرّ بي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأنا أغرس غراسًا فقال: “يا أبا هريرة ما الّذي تغرس”؟ قلت: غراسًا لي، قال: “ألا أدلّك على غراس خير لك من هذا”؟ قلت: بلى يا رسول اللّه، قال: “قُل سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلاّ اللّه، واللّه أكبر، يغرس لك بكلّ واحدة شجرة في الجنّة”. وورد عنه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمّد أقرئ أمّتك منّي السّلام، وأخبرهم أنّ الجنّة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنّها قيعان، أي: مستوية وأنّ غراسها، سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلاّ اللّه، واللّه أكبر}. فهذه الكلمات الأربع على قلّة عددها ويسر أدائها، فهي كلمات عظيمة المعنى، واسعة الأثر، قد يوجد في النّاس من يردّدها، وربّما يكثر منها، ولكنّه في منأى عن فقه معناها، أو استخلاص لوازمها حتّى يصبح القلب بسبب ذلك بعيدًا عن استشعار جلال اللّه وعظمته، وقدره حقّ قدره، ولا جرم فإنّ ذِكر اللّه عزّ وجل كلام تقشعر منه جلود الّذين يخشون ربّهم ثمّ تَلين جلودهم وقلوبهم إلى ذِكر اللّه، بيد أنّ النّاس ممّا ألفوا منه، وما جهلوا من معناه لا يردّدونه إلاّ كما يردّدون كلامًا تقليديًا، لا يعدو كونه تمتمات، يلوك بها المرء لسانه، قد طغت على معالمه بسبب الألفة والاعتياد المتجرّد عن الامتثال للّه سبحانه.ويضاف إلى ما سبق أن ذكر الباقيات الصّالحات قد يكون سببًا في إجابة الدّعاء، أو قَبول الصّلاة، كما بين ذلك النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كما في صحيح البخاري بقوله: “من تعارَّ من اللّيل أي: استيقظ فقال حين يستيقظ: لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على لك شيء قدير، سبحان اللّه، والحمد للّه، ولا إله إلاّ اللّه، واللّه أكبر، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه، ثمّ دعَا استجيب له، فإن قام فتوضّأ، ثمّ صلّى قُبلت صلاته”.إنّ الإقبال على الطّاعة والإقبال على بيوت اللّه نوع من الزّاد الباقي الدّائم الّذي لا ينفد ولا يزول: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً}، فالسّاعات الّتي تُقضى في بيوت اللّه، والّتي تُقضى مع كتاب اللّه، والّتي تُقضى في جلسات العلم، هي السّاعات الباقية الدّائمة الّتي يفرح صاحبها عندما يلقى اللّه تبارك وتعالى، وهي الّتي يذكر اللّه أصحابها إذ يجتمعون في اللّه وللّه، فيبتغون ما عند اللّه ويطلبون رحمة اللّه تبارك وتعالى، لا يجتمعون لعرض من الدّنيا زائل يتقاتلون عليه فتختلف منهم القلوب، ثمّ تتناثر منهم الأجسام، وإنّما يجتمعون على الخير الّذي يؤلّف القلوب ويجمعها: {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّه أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}. واللّه وليّ التّوفيق.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات