إن من مقاصد الشريعة الإسلامية أن تبقى الأمة موحِدة تؤمن بالله الفرد الصمد ولا تشرك به شيئا، وموحَدة في كلمتها لا تفرقها النعرات والدعوات المختلفة..
إن من أكبر المصائب التي ابتليت بها أمتنا وفتكت في سواعد قواها، وأطاحت برايات مجدها الاختلاف والتفرق، والتقاتل والتناحر في سبيل أمور مادية أو عصبية منتنة مقيتة، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَأَطِيعُواْ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} الأنفال:45-46.وإن من أهم عوامل قوة أمة من الأمم الاتحاد ووحدة الكلمة وعدم التفرق، فبالاتحاد تنال الأمم مجدها، وتصل إلى مبتغاها، وتعيش حياة آمنة مطمئنة، بالاتحاد تكون الأمة مرهوبة الجانب، مهيبة الحمى، عزيزة السلطان.لكن مع الأسف إننا نشاهد فئات من إخوة لنا لا همَّ لهم إلا تفريق المسلمين، وبث بذور الاختلاف والنزاع بينهم، ونراهم لاهثين في البحث عن كل ما من شأنه تشتيت ما بقي من أشلاء هذه الأمة إلى مِزق، من تجمعات محدودة لا تتطلع إلى علياء، ولا تنظر إلى أبعد من أنفها، ولا تجاوز أخمص قدميها..وأهم خصائص هذه الأمة أنها أمة واحدة، قال الله عزّ وجلّ: {وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱتَّقُونِ} المؤمنون:51. والوحدة بين المسلمين واجبة بنصوص القرآن والسنّة كما في قول الله عزّ وجلّ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ منْهَا كَذٰلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} آل عمران:103.ولنسأل أنفسنا كيف حوّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمّة العرب من قبائل متناحرة إلى أمة محترمة؟ يبيّن آرنولد توينبي أنّ النّبيّ محمّدًا عليه الصّلاة والسّلام قد وقف حياته لتحقيق رسالته في كفالة مظهرين أساسيين في البيئة الاجتماعية العربية؛ هما الوحدانية في الفكرة الدّينية، والقانون والنظام في الحكم، وتمّ ذلك فعلًا؛ فغدت للإسلام بفضل ذلك قوّة دافعة جبارة لم تقتصر على كفالة احتياجات العرب، ونقلهم من أمة جهالة إلى أمة متحضرة، بل تدفق الإسلام من حدود شبه الجزيرة، واستولى على أجزاء كبيرة من العالم تمتد من سواحل الأطلسي إلى شواطئ السهب الأوراسي.بهذا الإيمان الواسع العميق والتعليم النّبويّ المتقن، وبهذه التربية الحكيمة الدقيقة، وبشخصيته الفذة، وبفضل هذا الكتاب السماوي المعجز الذي لا تنقضي عجائبه، بعث رسول الله محمّد صلّى الله عليه وسلّم في الإنسانية المحتضرة حياة جديدة مبنية على الوحدة وعدم التفرق..لكن تشهد أكثر بلدان العالم الإسلامي نشاط تيارات وطنية وقومية وإقليمية نبتت لتملأ الفراغ الذي خلّفه انهيار الخلافة العثمانية، وهذه التيارات أفرزت فلسفات وأدبيات تمجّد الكيانات الصغيرة، وتبحث لها عن أمجاد خاصة بعيدًا عن الولاء للوطن الأكبر، ما يستدعي جهودًا فكرية وأدبية وثقافية كبرى تعيد بناء العلاقة السوية بين عالمنا الإسلامي الكبير، وبين الأوطان الإقليمية التي نعيش فيها والأعراق والأجناس التي ننحدر منها.إن ما ظفر به أعداء الأمّة من سطو واستيلاء لا يرجع إلى خصائص القوة في أنفسهم، بقدر ما يعود إلى آثار الوهن في صفوف أصحاب الحق، فالفرقة تجعل هلاك الأمة بيد أبنائها في سلاسل من الحروب في غير معركة، وانتصارات بغير عدو. وإن تنمية الوعي بأهمية وحدة المسـلمين كما يأمرهم الإسلام هي النقطة الأساس الأولى في سبيل التغلب على الواقع المؤلم الذي أوجده هذا التفرق وأفرزته هذه العصبية المقيتة.لقد نقل التعصب والتحزب المسلمين من القوة إلى الضعف، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الأخوة إلى العداوة، وولدت بينهم بؤراً بركانية قابلة للانفجار في أي لحظة.وعلى الدعاة والوعاظ وأصحاب الأقلام من كتاب وأدباء وإعلاميين اليوم واجب كبير وخطير في اكتشاف كل ما ينمي أوجه التعاون والتكامل بين بلدان العالم الإسلامي، ثم الكتابة عن ذلك ونشره، لتتعزّز معرفة المسلمين بالإمكانات التوحيدية المتاحة.كلية الدراسات الإسلامية/ قطر*
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات