ماذا يعني أن يكون الأدب مرادفا للأيديولوجية؟ معناه أنك تساهم ككاتب في نشر منظومة فكرية، ناقلا إياها من كتب مفكرين وفلاسفة، وتغامر بتطبيقها على مجتمعك.
تجرأ صديقي الروائي جيلالي خلاص ذات يوم، على تقديم النصيحة لكاتب كبير عرف بميله لتيار الواقعية الاشتراكية في الأدب، وقال له “عليك بترك المواضيع الأيديولوجية جانبا، واهتم بالمواضيع التي لها علاقة بالإنسان وهمومه”. كما تجرأ على نصحه بأن يحول الأدب إلى فضاء يترجم التجربة الإنسانية من منطلق المعايشة الفردية والمشاهدة اليومية لتفاصيل الحياة. لكن الكاتب المقصود تعنت بشدة، ورفض أن يعمل بنصيحة خلاص، وبلغ به الأمر أن غضب واستنكر الاقتراح بشدة، ورفض النصيحة رفضا قاطعا، وردد قائلا “هل تريدني أن أكشف للناس أنني كنت أميا وراعيا”. وظل هذا الكاتب وفيا للأيديولوجية الاشتراكية في ما يكتبه، فرمى جانبا اقتراح جيلالي خلاص الذي حكى لي هذه الواقعة منذ سنوات، وهو يستعيد تفاصيل حياة الروائي التركي الكبير يشار كمال (وهو من أصل كردي)، ذلك الأمي الذي اشتغل في مزارع القطن والأرز، قبل أن يصبح كاتبا ذا صيت كبير، ومتألقا في سماء الأدب العالمي، حتى كاد يفتك جائزة نوبل للآداب في أكثر من مرة، بفضل سلسلة روايات تمحورت حول شخصية قروية تدعى “ميميد”. وكتب يشار كمال عددا كبيرا من روايات فاقت 30، وترجمت إلى أكثر من 30 لغة. ويكمن سر نجاحه في أنه نسج عالمه الروائي من هموم وشجون وآمال وآلام الناس، ومن التوق اللامحدود للحرية. لم يتعلم القراءة والكتابة إلا في سن التاسعة، وكان يسير يومياً إلى المدرسة في القرية المجاورة للتعلم، وتلك هي حال كاتبنا الذي نصحه خلاص، حيث تأخر تعليمه إلى غاية سن الخامسة عشرة، لكن ذلك سر لا يفشي به لأحد. استعاد جيلالي خلاص هذه الواقعة، وقد حرص على عدم ذكر اسم هذا الروائي، بعد أن تناقشنا في موضوع الرواية الجزائرية التي يبدو أنها نزلت متأخرة إلى عالم الإنسان وهمومه. وتلك هي حال الثقافة عندنا بصفة عامة، فاقترابنا من منظومة التفكير الفرانكفونية جعلنا جد متأثرين بالتقاليد الأيديولوجية، أكثر من تأثرنا بالإنسان. فالاهتمام بما هو إنساني خاصية أنجلوسكسونية لم تدخل ميولنا الثقافية، وظلت غريبة عنا. فإذا كانت فرنسا هي مهد الثورات العنيفة والأيديولوجيات الدموية، فإن بريطانيا في المقابل ظلت متمسكة بفكرة التغيير بواسطة الأفكار، فانتقلت للمرحلة الديمقراطية بالاحتفاظ بالملكية، بينما قامت الديمقراطية الفرنسية على العنف الثوري. ولحسن حظ المتأثرين بالعالم الأنجلوسكسوني أنهم ورثوا هذه التقاليد الهادئة، فكتبوا أدبا إنسانيا بسيطا في تعبيره وعميقا في مغزاه ومعناه، لا يروم سوى تقديم حكايات عن صراع الإنسان من أجل البقاء في عالم مزيف، منفردا في طرحه ومختلفا عن التقاليد الأدبية الفرنسية الثورية الغارقة في محاولة تغيير المجتمع برمته قبل تغيير الإنسان. وأدى رفض الكاتب المذكور التخلص من هيمنة الأيديولوجية في أدبه إلى كارثة حقيقية، حيث تأخر أدبنا عن التحول لأدب إنساني، وبقي لفترة طويلة أدبا أيديولوجيا يهتم بالعام والشامل على حساب التفرد والخصوصية والمأساة الإنسانية. لقد مجد هذا الكاتب الأيديولوجية الاشتراكية. ولما هوت هوى أدبه. ولو عمل بنصيحة جيلالي خلاص، فإنه حتما لن يعرف مثل هذا المصير. لكنه تعنت واعتبر الأدب مرادفا للأيديولوجية. وماذا يعني أن يكون الأدب مرادفا للأيديولوجية؟ معناه أنك تساهم ككاتب في نشر منظومة فكرية، ناقلا إياها من كتب مفكرين وفلاسفة، وتغامر بتطبيقها على مجتمعك. وهذه الأفكار التي تعتبرها وأنت تؤلف أعمالك الروائية بمثابة خلاص البشرية، تعتقد أنها غير قابلة للنقد ولا للنقاش، فتصبح في نفس المرتبة أنت والسياسي، وتتصرف مثله وتزيح كل من يجرؤ على نقدك، فتساهم في بلوغ المجتمع مرحلة الانغلاق والتكلس. ووفق هذه الرؤية يتحول الروائي إلى مصلح، وذاك هو الانحراف الكبير. بيد أن الجيل الجديد من الروائيين رفضوا فكرة “البطل النموذج”، وأدرجوا يومياتهم في أعمالهم الروائية، وقدموا نظرة مغايرة فكتبوا رواية مختلفة، انطلاقا من موقع حميم، فألقوا بالأيديولوجيات على قارعة الطريق على حد تعبير الدكتور فيصل دراج، وهو يتحدث عن ثورة إدوارد الخراط وسجاله مع نجيب محفوظ. كتبوا رواية تنتصر للإنسان ولتفاصيل الحياة. ورفضوا التصرف بشكل بطولي، ولم يرغبوا في تقليد “بروميثيوس” حتى يسرقوا النار، فقط أرادوا أن يكتبوا وهم باقون في الساحة، رافضين الصعود إلى الأولمب. لقد نقل الروائيون الجدد “البطولة” من الروائي البطل، إلى بشر عاديين، بطولتهم الوحيدة البقاء في الحياة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات