“إطعام الطّعام” عادة جزائرية قديمة يتمادحُ بها النّاس بكلّ طبقاتهم، وهي أيضًا مقصد عظيم من مقاصد التّكافل والمواساة التي جاء بصيغتها اللّفظية هذه التّنويه بها في نصوص القرآن الكريم والسُّنّة النّبويّة الشّريفة. قال تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا}. وبوّب البخاري في صحيحه (باب إطعام الطّعام من الإسلام) ثمّ أورد حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أنّ رجلاً سأل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أيّ الإسلام خير؟ قال: “تُطعِم الطّعام وتقرأ السّلام على مَن عَرفتَ ومَن لم تَعرِف”.وزكاة الفطر صدقة من الصّدقات الواجبة المخصوصة بإطعام الطّعام في وقت مخصوص، ويبدو أنّ مقصدها العام هو اختبار الصّائمين في مدى استفادتهم من صيامهم، وتربية أنفسهم بالجوع والعطش تحقيقًا للمَقصد الشّرعي من وضع الشّريعة الّذي أشار إليه الشّاطبي بقوله (المقصد الشّرعي مِن وضع الشّريعة إخراج المكلّف عن داعية هواه؛ حتّى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا).واعتبارًا لهذا المعنى الذي نزعمه وجدنا جماهير العلماء يقولون بإخراج هذه الزّكاة من أصناف محدّدة من الطّعام الّذي هو غالب قوت البلد، حتّى قال النّاظم في الفقه المالكي (وتجب من أغلب قوت البلد / من واحدٍ من تسعة لا زائد / قمحٍ شعيرٍ وزبيبٍ سُلُتِ / تمْرٍ أُرُزٍ دُخْن اقطٍ ذُرَةِ).وهذا القول الجمهوري لايزال باقيا على أرجحيته، وإن رخّص المتأخّرون من العلماء في جواز التحوّل عن هذا (الأصل الإطعامي) إلى (بدله القيمي والمالي)، تبعًا لقول أبي حنفية والبخاري وأشهب من المالكية كما قال الناظم (وقيمة الزّكاة عنها تكفي / لدى الإمام الحنفي والجعفي / وهو الّذي به يقول أشهب / ومثله للعتقي ينسب).وإدراكًا منه لهذا المقصد في الإطعام وجدنا الإمام مالك رحمه الله تعالى حين: (سُئل عن الرّجل لا يكون عنده قمح يوم الفطر، فيُريد أن يدفع ثمنه إلى المساكين يشترونه لأنفسهم، ويرى أنّ ذلك أعجل؛ قال: لا يفعل ذلك، وليس كذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)، وفي رواية أنّه خفّف مقتضى هذا القول فقال لاحقًا (ولو فعل لم أر به بأسًا).ولترسيخ هذا المعنى أيضًا في النّفوس كانت هذه الصّدقة من الصّدقات البادية للعيان واجبة على أغلب الصّائمين تقريبًا تحقيقًا لمعنى {إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ..}، حتّى قيل إنّ الأطعمة المتجمّعة من زكاة الفطر كانت تصير أكوامًا أكوامًا في المسجد على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.ولتقرير هذا المعنى أيضًا وجدنا هذه الزّكاة قد فُرِضَت على كلّ مَن ملك ما فضل أو زاد عن قوته وقوت عياله في هذا اليوم أي يوم العيد، حتّى قيل تجب على الفقير نفسه إذا تجمّعت عنده أطعمة كثيرة تفوق حاجته وحاجة عياله في هذا اليوم.وتأكيدًا على هذا المقصد التّكافلي كذلك وجدنا إخراج هذه الزّكاة إنّما تجب شرعًا على المكلّف عن نفسه وعن كلّ مسلم تلزمه نفقته من الأقارب كوالديه الفقيرين والأولاد الذّكور حتّى يبلغوا الحلم أو العاجزين عن الكسب ولو كانوا بالغين، وعن الإناث حتّى يتزوجن، وعن زوجته، وزوجة أبيه الفقير، وعن خادمه وعن غيرهم ممّا هو مفصّل في كتب الفقه.والمتأمّل في حديث ابن عبّاس رضِي الله عنهما في سنن أبي داود، يجده صريحًا في التّنصيص على هذا المقصد العظيم في التّكافل بطُعمة المساكين، أعني قوله “فرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم زكاة الفطر، طُهرة للصّائم من اللّغو والرّفث، وطُعمة للمساكين، مَن أدّاها قبل الصّلاة فهي زكاة مقبولة، ومَن أدّاها بعد الصّلاة فهي زكاة من الصّدقات”. وعلى هذا الاعتبار ينبغي للمسلمين أن لا يغفلوا عن هذا المقصد العظيم من زكاة فطرهم.مفتش التّوجيه الدّيني - تندوف
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات