شيوخ يعيشون حياة "العبيد"في قلب العاصمة!

+ -

يشتكي أغلب العمال في شهر رمضان بمجرد ابتعادهم عن فضاءاتهم المكيفة من موجة الحر الشديد التي اجتاحت معظم ربوع الوطن في شهر الصيام، بالمقابل هناك من يقضون يومهم تحت الشمس الحارقة في إنزال السلع من الشاحنات على ظهورهم، ولم يسبق لهم أن عاشوا نعمة العمل تحت المكيف الهوائي. عند ولوج حي السمار بجسر قسنطينة في الحراش تجد وجوها عابسة من مختلف الأعمار. يختبئ أصحابها من حر الشمس تحت ظلال الأسوار الطويلة المقابلة للأزقة المؤدية لسوق الجملة، يسترجعون أنفاسهم ريثما تدلف شاحنة مملوءة بالسلع، فيندفعوا وراءها طالبين إفراغ محتواها مقابل القليل من النقود.كانت عقارب الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحا من يوم رمضاني حار، حين دخلنا حي السمار المعروف بحركته النشيطة، لكن هذه المرة ملأه الهدوء وساد أرجاءه سكون مطلق، ليس لأن اليوم عطلة، بل بفعل عاملي الصيام والحرارة الشديدة، حينها كان عمي “محمد.ج”، صاحب الثلاث سنوات بعد عقده السابع، يتصبب عرقا وهو يستقبل أكياس الفرينة الضخمة ويرتبها قبل أن ينقلها رفيقه “عزيز.ح” على ظهره من المتجر إلى الشاحنة.في خريف العمرورغم سنهم المتقدمة وقساوة الطبيعة وصعوبة العمل، إلا أن هذا لم يمنعهم من طلب “الرزق الحلال”، على حد قول عمي محمد ذي العقد السابع الذي صرح لنا قائلا: “ليس لدي خيار آخر سوى حمل الأكياس”. وعن قدرته على تحمل ثقل العمل المرهق أجاب: “ألفنا العمل رغما عنا ورضخنا لهذه الشروط منذ 30 سنة (تاريخ حل الشركة الوطنية التي كان يعمل بها)، كما أنني أب بنات”، يضيف رب الأسرة المتكونة من 7 أفراد، “ولا أستطيع العزوف عن العمل”، ليقاطعه عزيز قائلا: “سنظل نعمل حتى نبلغ ذلك اليوم الذي نلاقي فيه بارئنا، يومها ينقطع رزقنا”، هكذا اختصر لنا الحديث القائم على شؤون أسرة متكونة من 6 أفراد، الذي ينزل يوميا إلى المكان نفسه في حدود الساعة السادسة صباحا قادما من حي الرملي، بحثا عن حمل الأوزان وتنزيل السلع من الشاحنات مقابل مبلغ زهيد يغطي مصاريف يوم واحد فقط.ظهور مقصومةأثناء حديثنا مع الرجلين شاركنا الحديث آخرون كانوا ينصتون إلينا، كانت وجوههم متعبة وجبهتهم مطبوعة بتجاعيد توحي بأن أصحابها أنهكهم العمل. “جمال.ب” أحد هؤلاء يقول: “هناك الكثير من قصمت أكياس السلع الثقيلة ظهورهم، ولا أحد التفت إليهم أو لعائلاتهم”، ويضيف آخر “بل هناك من فارق الحياة في هذا المكان بالذات وفي صمت”.وعن صعوبة العمل في شهر الصيام، قال جمال بصوت هادئ: “أعطش أنا ويشبع ابني..، أتعب.. وترتاح عائلتي”، كلمات تركت آثارها العميقة في قلوب الجميع من أمثاله وتغلغلت إلى وجدانهم وحمستهم على الكدّ أكثر في العمل بغض النظر عن الظروف القاسية التي يشتغلون فيها، لتحقيق حياة أفضل لأبنائهم ليس إلا.روح الدعابة حاضرةورغم الإرهاق والتعب الذي ينال منهم وارتفاع درجة الحرارة فوق رؤوسهم ومعاملتهم السيئة من طرف التجار أصحاب المحلات، إلا أن كل ذلك لم يمنع الابتسامة من الظهور على وجه جمال وأمثاله من الحمًالين الذين لم تفارقهم روح الدعابة والمزاح، رغم الألم الموجع الذي ينخر باطنهم.    وبينما نحن نتبادل أطراف الحديث مع هذا وذاك، يسردون لنا معاناتهم اليومية داخل ذلك الفضاء، بعد أن وجدوا أنفسهم مرغمين على العودة إليه يوما بعد يوم، بحثا عن كسب قوت عائلاتهم، التفتنا حولنا لنلمح عمي محمد صاحب العقد السابع يهرول وراء شاحنة جديدة دخلت لتوها، وما هي إلا دقائق حتى انطلق في تحميل السلع التي كانت على متنها.     

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات