أنت أحد متابعي أحداث غرداية وسبق لك أن كتبت عن بني مزاب.. ما تفسيرك للعنف الذي يعصف بالمنطقة؟ دعني في البداية أترحم على أرواح ضحايا هذا العنف الأعمى، وأرجو شفاء عاجلا للجرحى وأقدّم أسمى عبارات التعزية لعائلات الضحايا.تؤكد أحداث غرداية الأليمة أن ظاهرة العنف قد تجذرت في الجزائر بشكل مخيف، بدليل أنها تضرب يوميا في أكثر من مكان، في المدن والأرياف على حد سواء لأسباب واهية أحيانا، حتى أصبح العنف كابوسا يقلق الجزائريين ويجعلهم يتوقعون الأسوأ.هل يفسر العنف بالمظالم المتراكمة التي تعرض لها الشعب الجزائري في الماضي، خاصة خلال فترة الاستعمار الفرنسي الذي ارتكب جرائم بشعة في حق أجدادنا، وخلال عهد الاستقلال الذي شهد صداما دمويا بين الجزائريين لأسباب سياسية؟لا شك أن خطورة ظاهرة العنف المتنامية، تستنهض همم الأكاديميين من فلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء النفس والمؤرخين، وتستوجب تضافر جهودهم مع السياسيين من أجل تشخيص الداء وتحديد الدواء الناجع. ومهما يكن فإن الاستبداد السياسي المنجب للمظالم، قد ألقى بظلاله في جميع مناطق العالم التي ضرب فيها العنف بقوة.إن ما يقلق أكثر في أمر أحداث غرداية، أن سكان وادي مزاب معروفون بجنوحهم للسلم وبمستواهم الحضاري الراقي، وبتقديسهم لقيمة العمل التي جعلتهم يحوّلون أرضا جرداء إلى حدائق غنّاء، وبتمسكهم بقيم التضامن والتعاضد والاعتماد على الذات في تنظيم حياتهم، وبحبهم للعلم وتفانيهم في خدمة الحضارة العربية الإسلامية، دون التفريط في خصوصيتهم الثقافية التي يقرها العقل والنقل. وباختصار فهم يشكلون قدوة للمواطنة الصالحة التي يجب أن تبذل الجهود من أجل تعميم نموذجها على نطاق واسع. لكن يبدو أن النجاح قد يتحول أحيانا إلى نقمة ومصدر قلق وإزعاج لصاحبه، عندما يعجز الآخر عن مسايرة وتيرته الحيوية، فينظر إليه بعين السخط والتذمر، ويسعى إلى عرقلته.اختلطت المفاهيم بشأن ما يجري في غرداية، هل هو صراع طائفي أم مذهبي أم صراع عرقي، أم صراع سياسي، أم مجرد طيش شباب؟ سؤال هو من الأهمية بمكان. لاشك أن عدم الإلمام بحيثيات القضية هو العامل الأساس في نشر الضبابية حول قضية ما. نحن لا نملك في الجزائر ثقافة استشارة أهل العلم، ولا نملك ثقافة الحوار والنقاش بنية الوصول إلى فهم الظاهرة المراد علاجها فهما صحيحا. نحن لا نملك طبقة سياسية قوية تملك مخابر ومركز دراسات توفر المعلومة الموضوعاتية التي يحتاجها القرار السياسي.نحن لا نملك نظاما ديمقراطيا يعطي السلطة السياسية، لأن هذه الأخيرة قد حوّلته إلى مجرد لجان مساندة وبالتالي لم يعد هناك وجود لفاعلين اجتماعيين (نقابات، جمعيات، مثقفون..) يمارسون وظيفة النقد وأداء دور السلطة المضادة الضرورية لتوازن الدولة.وبموازاة ذلك مازال إعلامنا في طور النشوء، يفتقر إلى التخصص المفضي إلى المقاربة العلمية العميقة التي تساعد في توجيه النقاش نحو الوجهة الصحيحة، لذا حلت الإثارة أحيانا محل النقاش العميق. لهذه الاعتبارات تمكن الإعلام الأجنبي غير الملم بأوضاع الجزائر، من إسقاط مصطلحات سياسية خطيرة لا معنى لها في الجزائر، كالطائفية والمذهبية والعرقية. فأساس المشكلة في غرداية هو الأرض والعقار والتفاوت الاجتماعي بين السكان.أما الحماقات الصادرة عن بعض المتطرفين من الجهتين كتكفير الإباضية من جهة، أو المطالبة بالاستقلال الذاتي لبني مزاب من جهة أخرى، فهي نتاج الأزمة المتعفنة التي طال أمدها، جاءت على غرار ظهور الحركة الانفصالية في منطقة القبائل بسبب سياسة التعفين التي رعاها النظام السياسي هناك.لماذا برأيك عجزت الحكومة بما تملك من الإمكانات، عن إعادة الاستقرار إلى غرداية منذ ثلاث سنوات؟ عجزت الحكومات المتعاقبة عن حل الأزمة التي انفجرت في عقد الثمانينات من القرن الماضي، بسبب الفقر السياسي الناجم عن طبيعة النظام المستبد الذي ألغى المنافسة السياسية، وعطل التعاطي السياسي الصحيح. فالحكومات عندنا ليست حكومات سياسية ذات رؤية مستقبلية، بل هي حكومات تكنوقراطية يشعر فيها الوزراء أنهم موظفون يحسنون تسيير مسارهم الوظيفي للحصول على أكبر قدر ممكن من الامتيازات والمكاسب وليس إلا.ولعل ما يؤكد التصحر السياسي في ظل هذا النظام الشمولي، هو عجز الحكومة والمنتخبين عن تصور حل منصف ينهي الأزمة الخانقة، ولجوء الرئيس إلى تجاوز السياسيين بإسناد الأمر إلى العسكر، ولا شك أن هذا القرار الخطير هو إقرار بفشل النظام السياسي القائم، ومن ثم فلابد من رحيله.لماذا لم يعد لأعيان المجموعتين صوت يسمع في الأحداث؟الأصل أن الدولة هي المسؤولية عن توفير الاستقرار والعدل للشعب. أما التنظيمات التقليدية فهي مجرد رافد يضاف إلى جهود الدولة، علما أن وزن القوانين العرفية يزداد حجما كلما ضعفت الدولة أو اهتزت أركانها بفعل اعتداء خارجي، كما حدث لنا مع الاحتلال الفرنسي.والمفروض أن التنظيمات الاجتماعية العرفية تصبح في عهد الاستقلال جزءا من المجتمع المدني، لكن الغريب في الجزائر أن الدولة الشمولية قد ضايقتها من أجل إضعافها، وعوضتها بلجان المساندة التي تعتبر إحدى آليات الدعاية للسلطة.هل تتفق مع الرأي القائل بأن حالة شغور في السلطة سبب أحداث غرداية؟لاشك أن شغور السلطة قد ألقى بظلاله على الأزمة، بدليل أن الرئيس لم يوجه خطابا للأمة بمناسبة هذه الفاجعة الأليمة. لكن الشغور السياسي في الحقيقة أكبر من أن يحصر في مرض الرئيس، فالشغور منذ اغتصاب السلطة في 1962 وتجاوز السيادة الشعبية في صنع السياسة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات