مستشار دبلوماسي يصدم كهلا ويفر تحت جنح الظلام

+ -

في ظلام دامس غامر لساحل مدينة بواسماعيل، كان الجانب الأيمن من الطريق السريع المؤدي نحو زرالدة، صبيحة يوم 6 جوان 2009، شاهدا على وقائع جريمة صامتة، هناك أزهقت روح كهل، قضى تحت عجلات سيارة سائق مجنون مجهول، صدم العم عبد الله ثم  شق  طريقه دون الالتفات إلى أنينه وأوجاعه، ليكشف فجر ذلك اليوم، صورة صادمة لجثة ممددة فوق  بقايا دراجة اختلط  وقودها بدماء القتيل، هناك ظن المارة بأن الجاني سينجو  بفراره من ذلك المكان المعزول القاتم، لكن قطعة زجاجية فضحته وساقته إلى ما وراء القضبان. كانت  عقارب الساعة تشير إلى السادسة والنصف صباحا، حينما رن هاتف فرقة الدرك الوطني المحلية، إنه اتصال من سالك طريق، هاله المشهد، وهرع للتبليغ عن جثة عمي عبد الله، الرجل القتيل الذي كان لا يزال  ممددا فوق التراب بحي سيدي جابر .لدى وصول أفراد الفرقة إلى المكان، شرعوا في إتمام إجراءات المعاينة العادية للموقع، قبل أن تصل سيارة الإسعاف لتنقل الضحية  إلى التشريح، وحينما همّ الجميع بالانصراف، لفتت مرآة عاكسة كانت ملقاة وسط كومة حشيش يابسة، على بعد أمتار من الحادث، انتباه أحد رجال الدرك، فأسرع إلى التقاطها وضمها إلى الأغراض المرفوعة من مكان الحادث.صدمة من الخلف تزهق روح بائع السردينكشفت مجريات التحقيق الأولي، بأن الضحية خرج كعادته راكبا دراجته النارية من نوع “بيجو 103” قاصدا ميناء خميستي، حيث كان ينوي  شراء صندوق سردين من أجل إعادة بيعه في الصباح، وهو النشاط الذي  تشبّث به لسنوات لتحصيل زرق أبنائه الثمانية، حيث انتظر حلول الظلام ليشغّل دراجته، منطلقا كعادته فوق الشريط الأبيض للطريق العلوي المحاذي لقريته المسماة سي جيلالي بونعامة، مرتديا قلنسوة صوفية كانت تحميه من صقيع الليل، ولم يكن يدري بأن  ورقة العمر ستسقط  بين عجلات سيارة كبحت رحلته الليلة ولم تعده إلى أبنائه إلا جثة محمولة على ألواح خشبية.لم ينتظر رجال الدرك  نتائج التشريح، بل أخطروا وكيل الجمهورية لدى محكمة القليعة، طالبين منه الموافقة على فتح تحقيق جنائي في القضية، وسارعوا  لتشكيل خلية بحث وتحر للوصول إلى السائق الهارب، وأول ما قاموا به معاينة هيكل الدراجة التي كانت محطمة عن آخرها، سعيا منهم لتحديد لون السيارة من خلال رفع  الأجزاء المحتكة مع الهيكل المسترجع، غير أن ذلك لم يكن كافيا، وحينما استنفذت جميع الفرضيات وشطبت بعض التساؤلات، نبهّهم قائد الفرقة إلى ضرورة  استخراج المرآة العاكسة التي التقطت على مسافة أمتار من الحادث لعلها تكون جزءا من المركبة المبحوث عنها وعن صاحبها.مرآة عاكسة مفتاح التحقيقفي اليوم الثاني من التحقيق، أرسلت المرآة العاكسة إلى معهد علوم الإجرام والأدلة الجنائية التابع لجهاز الدرك الوطني  ببوشاوي، مرفوقا بتقرير مفصل حول الظروف المحتملة التي تكون قد أحاطت بالحادث، مع مخطط للموقع وكافة التفاصيل المساعدة في التحقيق، حينئذ، قام ضباط المعهد بفحص المرآة وعرضها على التقنيين والخبراء الذين تمكنوا من  استخراج رقمها التسلسلي، قبل أن يقوموا  بعرضها على مجموعة من المتعاملين الخواص ووكالات بيع السيارات  المعتمدة  بالمنطقة الوسطى للوطن.بعد أيام قلائل، وأثناء انهماك خلية التحقيق في جهود التحقيق حول هوية القاتل الفار، كان المعهد التقني ببوشاوي، قد تلقى مراسلة رسمية من الوكالة الرئيسية لعلامة “تويوتا” بالجزائر العاصمة، كانت عبارة عن قرص مضغوط، يحمل بيانات إلكترونية  وتفاصيل  تقنية  تجيب عن كافة المعطيات التي تضمنها الرقم التسلسلي للمرآة محل التحقيق، حيث كان تقنيو  وكالة “تويوتا” قد  حللوا  الأرقام والحروف المنقوشة  على الجهة الخلفية للمرآة،  وتمكنوا من فك شفرة المعلومات المرجعية للقطعة، وبتلك الطريقة انطلقت تحريات الدرك الوطني لتحديد السيارة التي  تتطابق معها المرآة.معهد بوشاوي يقترب من القاتل الفاربالرجوع إلى تقنية التطابق  بين الأجزاء الأصلية، توصّل المحققون إلى أن المرآة الملتقطة من مسرح الحادث تابعة لسيارة من نوع “تويوتا كورولا”، فلم يتردد تقنيو المعهد الأمني في  الرجوع إلى تاريخ دخولها الحظيرة الوطنية وتمكنوا من استرجاع هوية الزبون الأول الذي اقتناها سنة 2008 وهكذا انتهت فصول التحقيق التقني على مستوى المعهد.ما إن وصلت هوية المالك الأصلي للسيارة المشتبه فيها حتى سارع أفراد الدرك إلى طرق باب منزله، أين طلبوا منه مرافقتهم على متن سيارته الشخصية، فلم يتردد المبحوث عنه في إظهار استيائه من محدثيه، كاشفا عن وظيفته السامية بوزارة الخارجية الجزائرية، لكن ذلك لم يثن عناصر المهمة، فأصروا على تطبيق تسخيرة قضائية تتعلق بحجز السيارة المشتبه فيها وعرضها على الخبرة التقنية لاستكمال مجريات الأدلة العلمية.عند أول  استجواب للمتهم حول ظروف الحادث وتفاصيل أخرى، أظهر تماسكا ورباطة جأش، ونفى قاطعا أية علاقة له بالحادث المميت، وذهب إلى توعد المحققين بملاحقتهم قضائيا، غير أن رئيس الفرقة طلب منه  العودة إلى بيته  وانتظار استدعائه مجددا لاستلام سيارته التي تم تحويلها إلى خبير معتمد.انهيــــار المستشـــــار أمـــــام الأدلـــــة العلميــــــة لم يتردد الخبير في معاينة السيارة المحجوزة  وكشف بعض التعديلات التي طرأت عليها، كما  بيّن الخبير ذاته بأن المرآة العاكسة للجهة اليمنى من السيارة غير أصلية، مما يؤكد تورط المشتبه فيه في الحادث وقيامه بإعادة تركيب مرآة أخرى، فيما كشف المحققون، من جهتهم، بأن الجناح الأيمن الأمامي من ذات السيارة  أجريت عليه بعض الروتوشات عند الصفاح، وهي معطيات دعمت الخبرة التقنية، حينئذ أيقن فريق البحث بأن  الإطار السامي هو المتورط الرئيسي في الحادث.خضع الإطار المستدعى لسلسلة من الاستجوابات، وتمت مواجهته بكافة القرائن والأدلة، لكنه أصر على إنكاره، قبل أن ينهار في آخر المطاف أمام قوة الملف المنجز  طيلة أسابيع، حيث أقر في معرض اعترافه أنه ارتكب جناية القتل في حق الضحية عمي عبد الله، حيث ادعى بأن مركبته ارتطمت بعمود كهربائــي وأنه لم يكن قاصدا بفراره الإفلات من العقوبة. فأمسى وراء القضبان بمجرد تقديمه أمام وكيل الجمهورية قبل أن يعاقب بـ 7 سنوات نافذة  عقابا له على فراره وإزهاقه روح عمي عبدالله.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات