+ -

يقول الحقّ سبحانه: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا *  لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا *  وَيَنصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا} الفتح:1-3. بمجرد أن تقرأ هذه الآيات البيّنات من سورة الفتح، ينصرف ذهنك مباشرة إلى “فتح مكة”، مع أنّ كلّ انتصارات المسلمين كانت فتحًا، غير أنّ فتح مكّة شرّفه الله بشرف الزّمان والمكان، شرفه كونه كان في أفضل شهور العام شهر رمضان، وفي العشر الأخيرة المفضلة فيه والشّهر كلّه فضيل.شاء الله تعالى في مثل هذا الشّهر المبارك وفي العشرين منه من السنة الثامنة من هجرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، أن تُفتح مكة على يد حبيبه ونبيّه ومصطفاه عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم، طهَّرها من الأصنام والمشركين، فصارت بلاد إسلام وإيمان بعد أن كانت بلاد كفر وأوثان، ودخل النّاس بعد الفتح في دين الله أفواجًا، فكان فتحًا مُبينًا ونَصرًا عزيزًا.إنّ أهمّ شيء في الفتح يوم أن دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكّة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح، وقد حنى رأسه تواضعًا لله عزّ وجلّ، حتّى قال عنه أنس رضي الله عنه: “دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكّة يوم الفتح، وبطنه على راحلته متخشّعًا”. الله الله.. يدخلها وهو المطرود منها بهذا التّواضع والخشوع لله ربّ العالمين. وصدق الله العظيم إذ يقول فيك: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} آل عمران:159.قام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتّى دخل المسجد الحرام، ومعه أصحابه، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثمّ طاف بالبيت وهو يحمل قوسًا في يده، وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يَطعنها بالقوس ويقرأ قول الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} الإسراء:81. وأمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يكسّر هُبَل وأبو سفيان ينظر ويُشاهد نهاية هُبَل الذي كان يفتخر به في غزوة أحد أمام النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ويقول: “أُعْلُوا هُبَل”، ولهذا ذكَّره الزبير بذلك، فقال: يا أبا سفيان، إنّك كنتَ منه في يوم أحد في غرور.ولمّا أكمل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الطّواف، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففُتِحت فرأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فقال: “قاتلهم الله، والله ما استقسما بها قطّ” ثمّ فتح الباب، وقريش ينتظرون، ماذا يفعل بهم وهم الّذين طالما آذوه وعذّبوا أصحابه، إنّهم الّذين أخرجوه من أحبّ بلاد الله إليه، إنّهم الّذين قاتلوهم في بدر وأُحُد، وحاصروهم في الخندق، لا بُدَّ أن يُحاكم هؤلاء الخصوم، هذا ما يتوقّعه النّاس في مثل هذا الموقف الرّهيب، وهذا ما يفعله المنتصرون في القديم والحديث. ولو انتقم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم منهم ما كان ظالمًا لهم. ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صنع غير هذا، لقد نادى قريشًا وهم ناكسو رؤوسهم، ينتظرون الكلمة الفاصلة تخرج من بين شفتيه فقال: “يا معشر قريش، ما تظنُّون أنّي فاعل بكم؟”. قالوا: خيرًا، أخ كريم، وابن أخ كريم. هنا قال كلمة الفصل قال: “إنّي أقول ما قال يوسف لإخوته: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} اذهبوا فأنتُم الطُّلقاء”. وهكذا بكلمة واحدة، أطلقهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأصدر هذا العفو العام، وضرب المثل الأعلى في تسامح القادرين على الانتقام والاقتصاص.إمام مسجد السّلام، حي الدالية - سبدو

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات