جزائريون يعيشون على الصدقات لإكمال الشهر

38serv

+ -

كان السيد “محمد.ب”، متقاعد من الجيش، واقفا ينتظر دوره أمام آلة السحب الأوتوماتيكي للأموال بمركز البريد المركزي في الجزائر العاصمة، رفقة ابنتيه أمينة وهاجر، اللتين أصرتا على مرافقته لشراء ملابس العيد. سحب الوالد راتبه الشهري بالبطاقة المغناطيسية، وشرع في عده ثم ابتسم وكأنه يحدث نفسه “الراتب لا يتعدى الـ45 ألف دينار، ومصاريف البيت كثيرة، والمناسبات متوالية”. شعرت أمينة وهاجر بالسعادة عندما رأت الوالد يعد الأوراق النقدية بين يديه، فبادرتاه بالسؤال “بابا هل ستأخذنا الآن لشراء ملابس العيد؟”، فرد عليهما “نذهب إلى البيت أولا لاصطحاب وليد ومحمد وعلي”، حينها علمنا أن له خمسة أطفال، الأكبر منهم لا يتعدى عمره الـ15 سنة، وكلهم ينتظرون ملابس العيد.اقتربنا من السيد محمد لنسأله “كم يصمد مرتبك؟”، فتنهد المسكين قبل أن يجيب “لا يغطي راتبي الشهري إلا عشرة أيام فقط، أما باقي الشهر فأستنجد بالاستدانة من محلات بيع المواد الغذائية، حيث تصل إلى مليوني سنتيم”.ورغم سياسة شد الحزام التي تبناها محمد منذ سنوات، إلا أنه لم يستطع ضبط ميزانيته بسبب غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار “قمت بجولة في محلات بيع ملابس الأطفال بنهج العقيد عميروش، حيث كانت الأسعار “نار”، وليست في متناول أصحاب الدخل الضعيف”.“تقشف تعيش”لم يكن محدثنا الوحيد الذي يصارع أعباء الحياة براتب شهري لا يصمد لثلاثين يوما فحسب، فمليكة انتظرت طويلا أمام آلة السحب الآلي بالبريد المركزي، قبل أن تقبض راتبها الذي لا يتعدى المليون سنتيم فقط.ملامح وجهها الجميل كانت تخفي معاناتها في تربية أبنائها الخمسة من زوج عاطل عن العمل، لتخرج للعمل كمنظفة بمصلحة الضرائب بالعاصمة.تقول مليكة: “أعيش على صدقات الأهل والأقارب لتغطية باقي مصروف الشهر، فأطفالي الخمسة محرومون من العديد من الاحتياجات الضرورية، ولكن نحمد الله على الخبز والماء وإلا متنا جوعا”.“رابح يضحي بالويك آند”أما رابح القاطن ببلدية رويبة في العاصمة، 33 سنة، أب لأربعة أطفال، فيقول إنه لا يتقاضى أكثر من 30 ألف دينار شهريا، حيث يعمل بشركة لبناء الأنابيب المستعملة في الأشغال العمومية.ويضيف رابح أن ثلث الراتب الذي يتقاضاه يسخره للنقل من وإلى مقر العمل، ويسرد المعني طريقة عيشه، حيث يقطن ببيت مع أربعة من إخوته وزوجاتهم، ويعيش مع أولاده في غرفته الوحيدة، بينما تتقاسم زوجته مع ثلاث زوجات أخريات المطبخ.وجدنا رابح بالمركز يفكر في شراء ملابس العيد لأطفاله الأربعة، حيث بالكاد استطاع ادخار ما يمكنه من شراء كسوة طفلة واحدة.أما المواقف المحرجة، حسب المعني، أن إخوته يتصدقون عليه كلما حلت مناسبة مثل العيد أو أوائل رمضان، أما “الكارثة” فهو الدخول المدرسي، حيث يقول محدثنا: “في تلك الأيام لا أنام، وكثيرا ما واجهت مواقف مع المعلمين بسبب تأخر أبنائي عن اقتناء الأدوات المدرسية”. أما نوعية الأكل بالبيت، فيقول إنها لا تخرج عن العدس والمعكرونة، حتى في أيام الحر .يقول رابح إنه من أجل التخفيف من حال العائلة فيما يخص تغطية النفقات “عندما آخذ إجازتي السنوية، أبحث عن عمل مدة ذلك الشهر، فأرتاد ورشات البناء خاصة، ومنذ 15 سنة لم أعرف الراحة، فأنا دوما أعمل حتى في عطلة نهاية الأسبوع لدى الخواص، من أجل تغطية ما تيسر من النفقات، أما الكابوس الأكبر الذي ينتابني وأخشى منه فهو المرض، لأني أعرف أنني سوف أعيش أياما سوداء”.“القناعة كنز لا يفنى” هذه الحكمة شعار الشرطي إسماعيل، الذي يتقاضى راتبا قدره 35 ألف دينار، يقسمه بذكاء و”يتقشف”، كما قال، مع القدرة الشرائية حتى لا يلجأ للاستدانة “أحرص على التسيير العقلاني للراتب الشهري، بالعزوف عن اقتناء ما ارتفع ثمنه، فأنا مثلا لا أقتني السمك بـ500 دينار للكيلوغرام الواحد، رغم أن عائلتي صغيرة، ولا تضم إلا ثلاثة أشخاص فقط”... حتى الادخار لا ينفعبعيدا عن آلة السحب الأوتوماتيكي، كان الزبائن داخل مركز البريد يشتكون من تردي الخدمات جراء توقف الشبكة، ما حال دون تمكنهم من القيام بعملية الاستعلام عن الرصيد أو سحب مبالغ مالية ادخروها لتغطية مصاريف ما تبقى من شهر رمضان.وهو حال المتقاعد إسماعيل دنمور، المنحدر من ولاية قسنطينة، الذي أبى إلا أن يشارك أولاد أخيه المتوفى مائدة رمضان، بمساعدتهم ماليا على مصاريف الشهر الكريم.بدت ملامح الاكتئاب على وجه إسماعيل، وهو يتذكر شقيقه الدركي الذي راح ضحية الإرهاب في فيفري 2015، حيث كانا يحرصان على قضاء رمضان حول مائدة واحدة بالجزائر العاصمة، رغم بعد المسافة.اغرورقت عينا إسماعيل بالدموع ليقول: “منحة التقاعد لا تتجاوز الأربعة ملايين سنتيم، وتأتي معها البركة لأنني أقسمها بين أولادي وأولاد أخي رحمه الله، باقتناء المستلزمات الضرورية فقط، أما الكماليات، فلا مكان لها ضمن أجندتي”.ونحن نتحدث إلى إسماعيل، كان الشابان خالد ورضوان يحتجان على توقف الشبكة، وعليهما سحب راتبهما قبل التوجه إلى مسقط رأسهما بخميس مليانة. عندما استفسرنا من خالد عن قيمة راتبه، رد مبتسما “لا يتجاوز الـ25 ألف دينار، وهو لا يغطي إلا مصروف 15 يوما، رغم أنني غير متزوج، ووالدي من يتحمل مسؤولية الإنفاق على العائلة”، ويشاركنا الحديث صديقه رضوان “لا أملك من الراتب غير اسمه، مع ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية، فهو ينفد بعد عشرة أيام، ما يجعلني أعيش ظروفا صعبة مع عائلاتنا، فحتى الآن لم أتمكن من الزواج، لذلك صرفت النظر عن الموضوع مؤقتا، وبعملية حسابية بسيطة لا يكفيني حتى راتب بقيمة 10 ملايين سنتيم، علما أن ما أتقاضاه شهريا لا يتجاوز الـ25 ألف دينار”.راتب مغرٍ.. ولكنوفي الحي الراقي حيدرة بالعاصمة، كان عدد الزبائن محتشما في مركز البريد، منهم أبو يوسف، إطار بوزارة الموارد المائية، الذي أكد أنه لا يضع ميزانية للتكاليف اليومية، فراتبه بين 42 و45 ألف سنتيم لا يكفي إلا مصروف 10 أيام فقط.وواصل أبو يوسف يقول “المصاريف كثيرة جدا، وقد أجّرت شقة أملكها بنواحي العاصمة، حتى أسدد جميع نفقات البيت والعائلة، من فواتير الماء والكهرباء والهاتف والإنترنت، وبنزين السيارة، ومصاريف ابنتي الجامعية”.وخلافا لسابقيها “بحبوحة الراتب الشهري” لسيدة تعمل بالمركز التجاري لباب الزوار، التقيناها بنفس المركز البريدي، ليست كافية في ظل ارتفاع الأسعار وزيادة النفقات تزامنا مع شهر رمضان وعيد الفطر والدخول المدرسي وعيد الأضحى، حيث تقول: “أخاطب نفسي في كل مرة كيف وأين ذهب راتبي، فهو بين 10 و15 مليون سنتيم، لكنه بالكاد يسدد النفقات إلى آخر الشهر، رغم أن زوجي يعمل ولدينا طفلان فقط، أظن أن علي تنظيم ميزانيتي، لأنني أعرف أشخاصا لا يتقاضون إلا 30 ألف دينار شهريا، ويدخرون منه للزمن”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات