38serv

+ -

“وأنت تعود إلى بيتك.. فكّر بغيرك.. لا تنسى شعب الخيام”، ببيت من قصيدة محمود درويش “على هذه الأرض ما يستحق الحياة” اختزل السوريون بالجزائر حالهم، وبمرارة استحضروا ذكرياتهم في وطن تتساقط عليه البراميل الملتهبة، ويتحاور مواطنوه بلغة النحاس، آملين من الغد أن يغدق عليهم سلاما يلملمون به ما تبقى من وطن وما تمزق من نسيج وما تفكك من مجتمع. بارتخاء جلسوا على الأرائك في مقهى بسعيد حمدين في العاصمة، ولم يكتمل المجلس حتى فتحوا نوافذ تطل على سوريا، استحضروا عبرها ذكرياتهم وماضيهم، فعصف هواء ممزوج برائحة الدم والجثث وارتسم شبح الموت أمامهم، هنا وزعنا الابتسامات عليهم وجهرنا بصفتنا ومبتغانا، فتجاوب جميعهم، وتحدث أحدهم عن تجربته بالجزائر وعلامات الرضا بادية على وجهه.الوطن رحل.. قد يعودالمشهد في مخيلة إبراهيم وصفه كالتالي: “تتساقط قلاع سوريا على وقع القنابل والرصاص والصواريخ والحرب تعصر الحمم على قلوبنا وصور أهالينا تطاردنا حيثما حللنا، ورغم ابتساماتنا فإن أعماقنا تنصهر حزنا على الأبرياء الذين يدفعون ثمن الفتنة.بنظرات عابرة للقارات رمق خالد الأفق، وبشرود عميق تأمله، وكأنه يجري حواراً “صامتا” عبر السماء مع الوطن، يسأله عن حرب أبت أن تتوقف وعن حضارة انقرضت، وبعد فينة عاد متحدثا “الطائرات تصب براميلها الملتهبة على المواطنين في مناطق متفرقة بالشمال، والشعب يلتقط أشلاءه ويواصل مسيرته، فالسوريون هناك ألفوا القنابل والصواريخ المتساقطة عليهم من فرط تكرار المشهد، فانفجار قنبلة أو سقوط صاروخ أصبح أمرا عاديا، فيهرعون من أماكنهم لإسعاف الجرحى وإرسالهم إلى المستشفيات ثم يعودون أدراجهم ويستأنفون مجالسهم وكأن شيئا لم يحدث”.دمار هناك.. وجع هنالم يرغب خالد في انعطاف الحديث نحو السياسة وموازينها واكتفى برسم “خريطة الدم”، ففي الشمال وبالضبط على مستوى الحدود مع تركيا والعراق توجد أنهار من الدماء وتتوسطها مساحات يملؤها المشردون والثكالى ومخيمات اللاجئين. أما المدن الساحلية فمناخها يسوده السلام والهدوء، كون جل سكانها ينحدرون من الطائفة العلوية.في مجلس آخر، ترنح الحديث بين طرفي ثنائية مع أو ضد بشار الأسد، ليتفق الجميع على أن تعنت الرئيس السوري بشار الأسد هو ما أدى إلى تدفق الدماء من جسم الشعب السوري الذي خرج في مسيرات سلمية للمطالبة ببعض الحقوق، فقوبل بالنحاس والاعتقال والتنكيل، لتتطور الأحداث وتنحرف نحو المواجهة المسلحة، بعد ركوب أطراف أخرى الموجة وتغيير مسارها بدرجة الدم.إشادة بالرعيل الأولآلاف الكيلومترات التي تفصل سوريا والجزائر ليست كذلك على مستوى العلاقات الإنسانية، فالسوريون اندمجوا بسلاسة في المجتمع، وسرعان ما نسجوا علاقات مصاهرة وأسسوا أخرى تجارية مع الجزائريين.هذه مواصفات حياة عبد الله بالجزائر منذ مجيئه قبل نحو عامين، خالط سكان العاصمة وفتح مطعما بملامح وأطباق دمشقية ساحرة، وتحدث عن حلمه بالتوغل في الجزائر العميقة ومزج الثقافتين، بعد اكتشافه أن تقاليدهم معهودة لدى سكان شمال إفريقيا بفعل الدراما السورية وأعلامها كالممثل جمال سليمان ومواطنه غسان مسعود والمخرج إسماعيل نجدة أنزور، دون نسيان نجوم مسلسل باب الحارة الشهير.كان من المتوقع أن يجرنا الحديث إلى عالم الأدب، حين ذكّر أحد الجالسين بأزمة انهيار نسبة المقروئية في العالم العربي وتطليق العرب فعل المطالعة، مشيرا إلى أن آخر الإحصاءات أفادت بأن الشخص العربي يقرأ ربع صفحة، بينما يقرأ الأمريكي أكثر من أربعة كتب.وتابع المتحدث مفتخرا بالرعيل الأول من العرب “كان آباؤنا يلتهمون كل كتاب يسقط بين أيديهم ويداومون على المطالعة ومتابعة أخبار الكتاب والإصدارات، ويعرفون عمالقة الأدب من أمثال محمد الماغوط ونزار قباني وأدونيس وبركات..”. فجأة عبس صاحبنا وانكمشت تقاسيم وجهه وقال متحسرا “ماضينا أحسن بكثير من حاضرنا، ورغم ما لدينا من أموال وثروات لم نستطع حقن دمائنا، فيا عجبا من شبابنا اليوم انسلخوا عن مسارهم فطلقوا العلم والقراءة، وتزوجوا بالتفاهات وبالأفكار المستوردة، وتحول جلهم إلى أدوات يتم توظيفها في العنف والتدمير”.حديث في السياسةحلل محمد وهو طالب في كلية العلوم السياسية قسم ماستر، وضعية بلده محملا المسؤولية لخلية إدارة الأزمات على مستوى الجيش، إذ لم تتصرف بحكمة، وحذر مع الأحداث التي باغتته دون أن يتنبأ بها، فراح يترجل في قراراته بشكل تقليدي وينتهج أسلوب المواجهة فكانت الخسارة.. وطن.كان محدثنا أكثرهم تطرفا وراديكالية واحتكر الكلام في المجلس، معتبرا تداول نظرية المؤامرة بين الكثير من السياسيين ضربا من الوهم يتم تسويقه لفرض رؤية موحدة على الواقع وعلى الأحداث لتخوين المعارضة وتشويه سمعتها أمام الرأي العام العربي.توقف محمد فينة آخذا نقرات من شيشة منتصبة أمامه كعروس، فاقتنص آخر فرصة ليقدم تصوراته حول الخيارات المتاحة للخروج من الأزمة.. اتجهت الأنظار صوبه متلهفة لما ستنطقه شفاهه.شرع مخاطبا الجميع “كان الحل في العامين الأولين مختزلا في رحيل بشار الأسد، لكن اليوم بعد أن تكاثرت الجماعات المسلحة باختلاف مشاربها الإيديولوجية، وتمدد تنظيم الدولة بالشمال وكذا تعدد جبهات الاقتتال ودخول قوى أخرى على الخط، ابتعد السلام عنا بآلاف السنوات الضوئية واستحال الحل.. ليبقى المخرج الوحيد قائما على التعفن والحل العسكري ورحيل بشار ومن ثم إعادة بناء دولة جديدة”.   

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات