{وَلاَ تَطْغَوْا.. وَلاَ تَرْكَنُوا }

+ -

 يقول العليّ القدير سبحانه: “فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *  وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}. فقال الحسن البصري: “جعل الله الدِّين بين لاءين: ولا تطغوا .. ولا تركنوا”. وسأتكلّم على اللاء الأولى وأرجيء الثانية إلى موضع آخر.فالطّغيان أصله التّعاظم والجراءة وقلّة الاكتراث، والمراد هنا الجراءة على مخالفة ما أمروا به، والطّغيان شامل لأصول المفاسد، فكان النّهي عنه جامعًا لكلّ أحوال وصور الفساد النّاشئة من نفس المفسد. والطّغيان متأصّلٌ في الجِبِلَّة الإنسانية، وهو من أهم أسباب الانحراف وردّ الحقّ البين، لذلك كان من أوائل الآيات نزولاً “كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى *  أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى”، أي مِن طبع الإنسان أن يطغى إذا أحسّ من نفسه الاستغناء، وهو شدّة الغِنى والتقدير: إنّ الإنسان ليطغى لرؤيته نفسَه مستغنيًا.وعلّة هذا أنّ نفس المستغني تحدّثه بأنّه غير محتاج إلى غيره وأنّ غيره محتاج، فيرى نفسه أعظم من أهل الحاجة، ولا يزال ذلك التّوهّم يربو في نفسه حتّى يصير خلقًا حيث لا وازع يزعه من دين أو تفكير صحيح، فيطغى على النّاس لشعوره بأنّه في عزة عند نفسه. فقد بيّنت هذه الآية حقيقة نفسية عظيمة من الأخلاق وعلم النّفس. ونبّهت على الحذر من تغلغلها في النّفس.ومعنى “وَلاَ تَطْغَوْا” أي لا تتجاوزوا الحدّ فيما أمرتم به أو نهيتم عنه بالزّيادة إفراطًا، فإنّ الله تعالى إنّما أمركم ونهاكم لتهذيب نفوسكم لا لحاجته إلى ذلك، ولن تطيقوا أن تقدروا الله حقّ قدره، والدّين متين لن يشاده أحد إلاّ غلبه، فقد رضي منكم سبحانه الاقتصاد في العمل مع حسن المقاصد، ويجوز أن يكون المعنى: ولا تبطركم النّعمة فتخرجكم عن طريق الاستقامة يمنة أو يسرة. كما في قوله تعالى لبني إسرائيل: “كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي”؛ فنهى الله المسلمين عن مخالفة أحكام كتابه كما نهى بني إسرائيل.وبعد النّهي عن الطّغيان قال الحق سبحانه: “إنّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ”، وفي مغزى هذا التّذييل يقول العلامة  الطّاهر بن عاشور رحمه الله: “هذه الجملة استئناف لتحذير مَن أخفى الطّغيان بأنّ الله مطّلع على كلّ عمل يعمله المسلمون، ولذلك اختير وصف بصير من بين بقية الأسماء الحسنى لدلالة مادته على العلم البيّن، ودلالة صيغته على قوّته”. *إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات