+ -

 جاء هذا التّحذير الرّبّاني في سياق آيات تخشع لها قلوب المؤمنين وتصّدع، وتنشق لها الأرض وتخرّ الجبال هدًّا، وذلك قول الحقّ سبحانه: “أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتًا وَهُمْ نائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ”.وحقيقة المكر كما قال علماؤنا: فعلٌ يُقصد به ضرّ أحد في هيئة تخفى أو هيئة يحسبها منفعة. فهو تبييت فعل السّوء بالغير وإضماره، وإخفاء الإضرار، وإخفاء وسائل الضّر، وإبرازه في صورة المسالمة. وهو هنا استعارة للإمهال والإنعام، في حال الإمهال.. شبّه حال الإنعام مع الإمهال وتعقيبه بالانتقام بحال المكر.والمعنى: أفأمنوا مكر الله وتدبيره الخفيّ الّذي لا يحيط البشر بعلمه ولا يستطيعون، فغفلوا عن قدرتنا على إنزال العذاب بهم بَيَاتًا أو ضَحوة أو أيّ وقت كان؟، لئِن كانوا آمنين من مكر الله فهم بلا شكّ في الغفلة سادرون، وعن الصّراط ناكبون، وعن سنن الله في خلقه غافلون، فإنّه فلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ سبحانه إلاّ القوم الّذين خسروا أنفسهم وعقولهم، ولم يستفيدوا شيئًا من أنواع العبر والعظات الّتي بثّها الله في أنحاء هذا الكون، حيث أنّ الله يَستدرِجُهم من حيث لا يعلمون ويُملي لهم، إنّ كيده متين، فمن أمن من عذابه، فهو لم يصدّق بالجزاء على الأعمال، ولا آمن بالرّسل حقيقة الإيمان، ولم يتيقن من حلول يوم الحساب والجزاء. وأيّ خسارة أعظم من أن يرى الإنسان نُذُر الشّرّ والعذاب مقبلة إليه، ثمّ يخدع نفسه، ويقول: لا تعنيني. ثمّ يظلّ هكذا في أوهامه الخادعة حتّى تقع به الواقعة، وتنزل بساحته الفاجعة. فلا يجد له ملجأ ولا منجيا..قال الإمام الرّازي رحمه الله: “أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ” المراد أن يأتيهم عذابه من حيث لا يشعرون. قاله على وجه التّحذير، وسمّى هذا العذاب مكرًا توسّعًا، لأنّ الواحد منّا إذا أراد المكر بصاحبه، فإنّه يوقعه في البلاء من حيث لا يشعر به، فسمّى العذاب مكرًا لنزوله بهم من حيث لا يَشعرون، وبيّن أنّه لا يأمن من نزول عذاب الله على هذا الوجه إلاّ القوم الخاسرون، وهم الّذين لغفلتهم وجهلهم لا يعرفون ربّهم، فلا يخافونه، ومن هذه سبيله، فهو أخسر الخاسرين في الدّنيا والآخرة، لأنّه أوقع نفسه في الدّنيا في الضّرر، وفي الآخرة في أشدّ العذاب”.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات