+ -

عندما حل على الجزائريين عصر الهواتف الخلوية النقالة، وانتشرت محلات بيعها وتسويق الشرائح وبطاقات التعبئة، حوّل بعض اللصوص اهتمامهم نحوها، وتخصصوا في نشلها وخطفها بشكل مباشر من المواطنين، غير أن شبابا من ولاية سوق أهراس فضّلوا إسقاط بـ”ضربة قاضية” أحد أشهر وأكبر قلاع بيع هذه الأجهزة آنذاك، الواقعة على بعد أمتار فقط عن مقر الأمن الوطني، وهي عملية سرقة “مجنونة”، تميز أبطالها بدهاء ومكر منقطعي النظير، وكانت من أغرب العمليات تنفيذا وإحكاما وعبقرية، وقعت على مرأى من رجال الشرطة. لا أحد من لصوص المدينة المحترفين كان يجرؤ على التفكير في الدنو من ذلك المحل، ناهيك عن التخطيط لنهب محتوياته الثمينة التي أسالت لعاب صيّادي الهواتف، كونه منتصبا أمام مركز الشرطة ومحاطا بحمايتهم على مدار اليوم والأسبوع والسنة، وهو ما جعل صاحب المحل يكتفي بوضع قفلين فقط، بالإضافة إلى غلق باب الستار الحديدي.انهيار الأصنامفي ذروة ازدهار تجارة الهواتف النقالة ولواحقها بذلك المحل واتساع دائرة الزبائن، كان صاحب المحل واثقا من أنه محصّن ومؤمّن إلى أبعد الحدود، متّكلا على أعين الشرطة الساهرة، غير أنه بالمقابل هناك أعين أخرى لا تنام وتعمل بشكل موازٍ، بدأت تلاحظ كيفية استخراج صندوق الكنز المفقود، وتحويل الوهم إلى حقيقة.الشروع في التخطيط والتدبير وحتى عقد العزم على تنفيذ الجرائم ليس جريمة في نظر القانون، وهي المرحلة التي كان عليها شابان في العشرينيات من عمرهما، أخضعا المحل ومحيطه لدراسة معمقة، وضبطا إحداثياته ومجاله الحيوي، وخلصا إلى أن كل السبل تؤدي إلى استحالة تنفيذ مهمتهما، وكل نتائج الدراسات جاءت عقيمة ودون حلول.عبقريـة شريرةفكر الشابان مليّا في الخيارات المتاحة لديهما، بعدما سيطرت على ذهنهما أفكار شيطانية، سلّحتهما بشجاعة كبيرة وبثقة أنهما قادران على تنفيذ مخططهما والوصول إلى مقصدهما، هنا وفي إحدى زوايا المدينة المظلمة نطق أحدهما قائلا “هناك سبيل وحيد لتنفيذ المخطط، ولا أحد يستطيع ذلك.. حتى ولو أتينا بكبار المجرمين من المكسيك وإيطاليا وكولومبيا والولايات المتحدة”.تفاجأ الثاني من قول صديقه، غير أنه امتلأ شوقا وفرحة لكلامه وراح يصر عليه مواصلة الحديث والجهر بمكنوناته الثمينة، قاطعه الآخر معلنا عن جوهر الخطة والطريق الوحيد المؤدي إلى الكنز.اختفاء المجنونشرع الشابان في مرحلة تنفيذ الجريمة بعدما خططا لها بإحكام، فالأول رغب في السطو على المحل، والآخر اختار تقمص شخصية المجنون سمير، بعدما تم اختطافه قبلها وتقييده في أحد الأماكن حتى لا يرجع إلى مكانه المعتاد وينكشف أمرهما.ارتدى أحد الشابين ألبسة المختل عقليا البالية واستقر أمام المحل وباشر مهمته في كسر الأقفال واقتحام المحل في غفلة من أعوان الشرطة، ومنها إفراغ المحل عن آخره، في حين تشير رواية أخرى إلى أن أحد الشابين ولج إلى المحل عبر أحد المداخل الفوقية الضيقة وقام بإخراج كل المحتويات من أجهزة الهواتف النقالة الثمينة وكذا لواحقها، بالإضافة إلى المئات من بطاقات التعبئة، وكذا تحويل مبالغ قيمة من “الفليكسي”.الصدمةكانت لحظة الحقيقة بالنسبة لصاحب المحل صادمة، إذ أن كل التوقعات بحدوث مكروه للمحل كانت واردة، كنشوب حريق.. زلزال.. سرقة من خلال ثقة أحد العاملين معه، بينما كان يستبعد أن يتعرض لعملية سرقة وهو القريب من مركز الشرطة والمقابل له، حيث لا تفصله سوى أمتار عنه، خاصة نافذة الحراسة، حيث يجلس الشرطي المكلف بالمناوبة ليلا.تلقفت الآذان خبر تعرض أشهر محل لبيع الهواتف النقالة لعملية سطو منظمة، وتداولته الألسن بسرعة كبيرة، ليدخل المواطنون في حالة من الصدمة ممزوجة باللوم على أعوان الشرطة، متعجبين من عدم تفطنهم لعملية سرقة منظمة وقعت أمام ناظريهم.تابع الرأي العام بالمدينة أخبار الحادثة، وانتظر مطولا ما سيسفر عنه التحقيق، ليس تضامنا مع صاحب المحل فقط، وإنما لمعرفة من تجرأ وجازف بشجاعة منقطعة النظير واقتحم معقل الهواتف النقالة المحصن بأرمادة من رجال الشرطة.تفكيك اللغزوحسب التسريبات المتوفرة آنذاك، فإن جهاز الأمن دخل في حالة استنفار قصوى، ليس لكشف هوية الفاعلين فقط، بل لمعرفة الطريقة التي تمكنوا بها من بلوغ مرادهم والاطلاع على سر ومصدر الشجاعة التي تسلحوا بها لتنفيذ خططهم، فلجأوا إلى توظيف التكنولوجيا من خلال مراقبة وتتبع الأرقام التي استقبلت الأموال الافتراضية المتمثلة في “فليكسي”، وكذا تصفح سجل المكالمات التي أجريت تلك الليلية، لتعقب مهندسي العملية.بقدر ما تضامن سكان مدينة سدراتة بولاية سوق أهراس مع صاحب المحل واعتبروا أنها كارثة حلت به، خاصة أنه كان يتساهل مع كل زبائنه في تسديد مستحقاتهم ومقتنياتهم على مهل، بقدر ما تعجبوا من دهاء ومكر الفاعلين الذين اهتدوا إلى حل أسطوري قلما رأوه في اللصوص، سوى في تلك الأفلام الهوليودية، حيث يستهدف اللصوص أرقى وأكبر محلات المجوهرات على مرأى من رجال الأمن دون أن يعيروا أي اهتمام لهم.يد من حديد بقبضة من حديد ضرب جهاز العدالة المتهمين، وسلط عليهم عقوبة سالبة للحرية لمدة حوالي 5 سنوات، وقدّر القاضي إنزال أشد العقوبات عليهم، ليعتبر من تسوّل لهم أنفسهم بالتجرؤ على التعدي على ممتلكات الأشخاص.وبصبر المؤمنين بقضاء الله وقدره، تقبل صاحب المحل ما جرى، وواصل تحديه ومسيرته في تجارته دون كلل أو ملل وعوض عن خسارته بالعمل، واسترجع ما استطاع من أموال منهوبة.أما المختل عقليا سمير فعاد أدراجه لأيام قليلة، قبل أن يختفي مجددا عن الأنظار، وسط شكوك وأقاويل أسطورية تشير إلى أن سمير هو الدليل الذي استرشد به أعوان الأمن للوصول إلى الحقيقة، حديث تداول البعض أن سمير أحد عناصر جهاز الاستعلام والأمن، بينما يؤكد آخرون أنه مختل عقليا ألف الجلوس بجانب مركز الأمن والبلديات والجهات الرسمية لا غير.من وحي المافيا العالمية المجنون سمير هو الحل.. الوحيد الذي يمكن الاتكال عليه لتحقيق مبتغانا.. لكن كيف ذلك؟ رد الآخر.. وبمكر استرسل الصديق “علينا خطف ذلك المختل العقلي سمير، الذي ألف عناصر الشرطة رؤيته جالسا أمام المقر مرتديا “قشابية”، ومتنقلا من مكانا لآخر، ثم نجرّده من ملابسه ليرتديها واحد منا في الليل، متقمصا شخصية المصاب بمرض عقلي سمير، ومنها الاستلقاء عند مدخل المحل دون إثارة انتباه رجال الشرطة، وبهذا نتمكن من دحر شكوكهم و”قتل” مبدأ اليقظة الذي يقدسونه أثناء أداء مهامهم”. واصل الشاب عرض لب مخططه، واشترط على منفذ العملية حمل كل الأدوات الضرورية، وانتظار التوقيت المناسب لكسر الأقفال، حتى يتسنى له إكمالها دون أن يتفطن له رجال الشرطة وتوقيفه في حالة تلبس. كان مهندس العملية يدرك جيدا أن المهمة مستحيلة وذات أبعاد خرافية، مليئة بالمخاطرة والمجازفة، غير أن اهتداءهما للحل الأمثل كان بمثابة التطعيم ضد التراجع عن تنفيذها، ليبدأ العد التنازلي في يوم كان شتويا بامتياز.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات