38serv
يقال إن الموت وحده خارج عن إرادتنا، ومهما حزنا على فراق أحبائنا، فلن نستطيع أن نغير وقع الحقيقة في شيء، كذلك هو الحال بالنسبة لبلال ذي 19 ربيعا الذي ذهب ضحية واجب الصداقة، لم يكن يدرك ولو للحظة أن موقفه الرجولي تجاه صديقه سيكلفه ثمنا غاليا، ثمنا لا يمكن تعويضه، حتى لو ذرفنا الدموع وأطلنا الصلوات.❊ بلال الذي كان يعيش فترة حداد على والدته التي خطفها الموت من بين أحضانه، دون أن يمنحها القدر فرحة أن تعيش نجاح ابنها في شهادة البكالوريا، فواظب على المذاكرة واعتنق حلم النجاح، على أمل أن يسعدها وهي في قبرها، ولو بدرجة مقبولة، لم يكن يتخيل للحظة أن فراقهما لن يطول، وأن الفرحة التي رسمها بنجاحه بكل تفاصيلها لن يعيشها أيضا، ولن تمنحه الحياة فرصة الركض إلى قبرها، حتى يزف لها خبر نجاحه.كان التاريخ 27 أفريل 2015 في حي ديار الجماعة الشعبي ببلدية باش جراح شرقي العاصمة، صباحا يبشر بيوم مشرق كحال أيام الربيع، لكن نهايته لم تكن كذلك، فالقدر قال كلمة أخرى..صديقه يشكو إليه تعرضه للظلمراح صديق بلال يشكو له ما فعلت به شلة السوء التي نصبت نفسها وصية للحي، أخبره بأنهم قاموا بالاعتداء عليه وسرقة أمواله، ووصف حالته المثيرة للشفقة وهو يناجي المارة ويصرخ عله يجد من يغيثه، ولكن عبثا ضاعت كل محاولاته، لم يأتي أحد لإنقاذه، يقول “أحسست بالذل والظلم والمهانة لعدم مقدرتي على الدفاع عن نفسي”، يواصل “ماذا علي أن أفعل كي استرجع مسروقاتي وهي كثيرة، لن أستطيع مجابهتهم لوحدي، بماذا تنصحني يا بلال؟”. التزم بلال الصمت كعادته ولم يفصح عما يدور برأسه، ولو فعل عكس ذلك لربما كان الأمر قد اختلف ونهجت الأحداث مسلكا آخر غير مسلك المأساة، رجع من الثانوية بعد الظهر ليرتاح قليلا ويستعد للسباق التنازلي الذي تفرضه مراجعة دروس الامتحانات، إلا أنه لم يستطع تجاهل محنة صديقه الذي تعرض للاعتداء والسرقة في شارع طرابلس المؤدي إلى الخروبة مرورا بحي “لاڤلاسيير”، بكاؤه ونبرة صوته الخانقة أحزناه كثيرا فأشفق عليه لدرجة أنه أراد أن يسترجع أموال صديقه بنفسه، ويفاجئه عله يمحو هالة الحزن التي كانت تطبع محياه.أبى بلال إلا أن يضع حدا لهذا الظلم الذي طال صديقه، متجاهلا بذلك إخطار مصالح الأمن لعله يستطيع أن يحل أمر الاعتداء والسرقة بنفسه، دون إثارة البلبلة وإحداث الجلبة، سارع لوحده إلى مكان تجمهر هؤلاء المنحرفين ويا ليته لم يفعل.وصل بلال إلى المكان المسمى “عمارة 4” حيث كانت مجموعة المنحرفين تدخن وتقهقه وتتنابز بالألقاب، منظر مروع لمراهقين وشباب، منهم من اعتزل الدراسة وبقي يتسكع في الشوارع، ومنهم من اتخذ حرفة “التنمر” وسيلة للعيش والاسترزاق، شغلهم الشاغل هو الاعتداء يوميا على المارة، لا يفرقون بين نساء وأطفال وشيوخ، حتى من يركبون السيارات لم يسلموا من شرهم، اقترب بلال من جماعة السوء، والخوف والارتباك باد على محياه، لم يشأ أن يفصح بذلك حتى لا يلاحظوا ضعفه، فينقضوا عليه انقضاض الوحش المفترس.طعنة في القلب أردته قتيلااستجمع بلال قواه، حاول تعنيفهم بنبرة حازمة، عاتبهم ولامهم على تصرفهم الجبان تجاه صديقه، طلب منهم أن يعتذروا ويعيدوا مسروقاته، مردفا أنه ليس من الرجولة في شيء الاعتداء على الناس من غير وجه حق، وبينما يستمر في تعنيفهم بدأت تتشكل ملامح القسوة والغدر على وجوههم، وطبعا في مجمل قاموسهم المبني على انعدام المنطق اعتبروا مطالبة بلال بحق صديقه ضربا من الجنون، وتعنيفه لهم إهانة واستفزازا لن يسمحوا به، وكرامتهم لن تتنازل عنها، فجأة تحول الحديث إلى شجار وضرب وسب وشتم، وهو الوحيد بينهم، يستغيث هل من مغيث، ولكن لا حياة لمن تنادي، ويا ليت الأمر بقي على هذا الحال، بل قرر الشاب ذو 17 ربيعا الذي لم يشف غليله بعد أن ينهي الشجار بأبشع وأفظع من ذلك، فأخرج خنجرا وغرزه بوحشية في قلب بلال، فأرداه قتيلا يسبح في دمائه.أحــــــــــس أنـــــــــــــه سيفارق الحياةلم يستوعب سكان الحي المأساة التي عاشوها، وأبدوا سخطهم على الحالة المزرية التي وصلوا إليها، مرجعين ذلك إلى غياب الحماية والاستقرار، حيث بعثوا بشكاوى كثيرة لمقر الأمن لعله يقوم بإجراءات تخلصهم من الاعتداءات اليومية التي يمارسها المنحرفون في حق سكان المنطقة، ولكن لم يحظوا بإجابة، ما أسفر عن وقوع الجريمة الشنعاء.كان الجيران في حالة من الذعر والصدمة، جاراته صديقات والدته لم يصدقن ما رأين وسمعن، لم يشفين بعد من جرح فراق والدته حتى صدمن برحيل ولدها وهو بعد في ريعان شبابه، عاهدنها أن يعتنين بابنها في غيابها كأنه ابن لهن، ولكن يا لقسوة الحياة لم تجُد لهم حتى بهذه، كان شابا خلوقا ودودا، لم يشتك أحد من الجيران يوما سوء أدبه أو انعدام أخلاقه، وكأن الموت يختار الناس الخيرين ليأخذهم، أصدقاؤه المقربون بكوا بكاء شديدا على فراقه، أحدهم قال إنه يكاد يصاب بالجنون، “كنا نتواصل قبل أيام على الفايسبوك، وأخبرني بأنه ليس بخير، وأنه يحس بأن أجله قد اقترب، أخبرته أن لا يعير للأمر أهمية، وأننا جميعا نمر بشعور كهذا، ونحس بضيق يتملكنا، لم أتوقع للحظة أن ما أحس به هو الشعور الحق، وعلامة صادقة على دنو أجله”، حتى صديقه الذي تعرض للاعتداء أجهش بالبكاء وبدأ يلوم نفسه، “لو كنت أعلم أنه كان ينوي الذهاب لجماعة الأشرار تلك لما أخبرته ولا شكوت له حالي، اعتقدت أن سرقة أموالي هي المصيبة، الآن فقط أدركت أن المصيبة الحقيقية هي فقدان صديقي، واستحالة رؤيته بعد الآن”.. وداعا بلال.إلقـاء القبـض على الجنــــــاة كانت الساعة تشير إلى الرابعة مساء عندما سلم بلال الروح إلى بارئها، سارعت قوات الأمن إلى مسرح الجريمة بعدما قام سكان الحي بالإبلاغ عن جريمة القتل المروعة التي اهتز لها حي ديار الجماعة.طوق أفراد الأمن مخارج الحي ومداخله، اقتحموا منازل المجرمين، وبعد البحث المضني والجهد الذي بذله عناصر الأمن في العثور على الشباب الذين تورطوا في مقتل بلال، استطاعوا توقيف 3 من أفراد المجموعة الذين يقطنون حي ديار الجماعة وجنان مبروك المحاذي، بينما لاذ رابعهم بالفرار ولم يستطيعوا إيجاده إلى اليوم.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات