أراد الفتى العشريني أن يغير واقعا فرضته عليه ظروف الحياة وشظف العيش بقريته النائية الواقعة في إحدى ولايات الغرب الجزائري، فكان لابد له أن يهاجر لطلب الرزق، لكنه في الطريق وجد من يبثه لواعج سره، فلبس الآخر ثوب الناصح الأمين وأشار عليه بفكرة جهنمية بدلا من البحث عن عمل قد لا يظفر به أبدا، وهو ما استهوى الشاب وجعله يتحول في ظرف أيام من غريب يبحث عن الحلال إلى قاطع طريق. هذه بعض تفاصيل قضية ضابط شرطة مزيف، سلب وسمم وروع العديد من الآمنين ووصل سجله الإجرامي إلى حد ترك ضحاياه عرضة لأقدارهم في أماكن بعيدة وخالية، قبلأن يسقط في شر أفعاله مدججا بقضيتين مجموع أحكامها 27 سنة سجنا نافذا. للمتهم سجل حافل بالقضايا، ضحاياه كثر، لكن لا أحد من هؤلاء تجرأ على جره إلى المحكمة، ليس لشيء وإنما لأن بدايات هذا المجرم لم تكن لتتعدى ترويع هذا أو ذاك من أجل الاستيلاء على هاتف نقال أو شيء مما خف حمله وغلى ثمنه لدى ضحاياه من النساء والفتيات، قبل أن يطور أداءه إلى ما هو أكبر وأرفع من ذلك، عندما تحول إلى سرقة المركبات التي خانته إحداها فوجد نفسه في النهاية مقيدا بالسلاسل مجرورا إلى المحكمة لكي ينال جزاءه.حضور قوي لمحاكمة مثيرةشهدت المحاكمة حضورا قويا لفضوليين جاؤوا للتعرف على هوية هذا الضابط المزيف، ولعل أكثر الناس فضولا هم رجال الأمن الذين غصت بهم قاعة الجلسات. كان كاتب الضبط يقرأ قرار الإحالة ويوجه القاضي الأسئلة إليه وهو جالس في طرف قصي من القفص، لا يعبأ كثيرا بنظرات الفضول تلك، وكأنه راض بما قدم أو أنه بطل جاء من عالم آخر. ولم تتغير ملامح وجهه وكاتب الضبط يواصل قراءة القرار في القضية التي تتعلق، حسب قرار الإحالة، بجناية محاولة القتل عن طريق التسميم مع سبق الإصرار والترصد والسرقة المقترنة بالعنف والتهديد وانتحال الوظيفة، ممثلة في صفة ضابط شرطة، والحكم 12 سنة سجنا نافذا وغرامة مالية قدرها 50 ألف دينار.وجبة مسمومةالزمان 23 نوفمبر 2009 تاريخ تقدم المتهم في ساعة متأخرة من ذلك اليوم من صاحب سيارة “كلونديستان” كان يسترزق بمحطة نقل المسافرين، وعرض عليه إيصاله إلى منطقة المعذر ببوسعادة نظير مبلغ 600 دينار، وهو العرض الذي وافق عليه الضحية.وفي مخرج المدينة، طلب المتهم من السائق التوقف أمام محطة البنزين لكي يتناول وجبة العشاء، وهو ما امتثل إليه الضحية الذي توقف أمام هذه الأخيرة وبقي ينتظره داخل السيارة، ولدى عودته أحضر له معه أكلا خفيفا وبدأ في تناول أطراف الحديث الذي تفرع إلى أوجه عدة، عرفه خلالها بنفسه، كونه يعمل ضابط شرطة وجاء هنا لمقابلة صديق قديم له، وما هي إلا لحظات حتى بدأ الضحية يشعر بآلام تمزق بطنه.انتظر المتهم الأمر كي يبلغ غايته، وهناك عرض عليه أن يتولى قيادة السيارة بدله قصد إيصاله إلى المستشفى. وعلى خلاف ما اتفق عليه، قام المتهم بتغيير مسار السيارة باتجاه طريق مظلم وخال من أي حركة، وهناك أمر الضحية بالنزول من السيارة، وعندما أبدى الأخير رفضه لذلك، أخرج مسدسا ووجه له ضربة على مستوى الرأس، قبل أن يركله بالقوة خارج السيارة، ولم يقف عند ذلك بل تعداه إلى رشه بالغازات المسيلة للدموع وفر تاركا إياه لمصيره المحتوم، قبل أن تنقذه دورية لمصالح الدرك كانت تمر صدفة بالمكان، ليتم إلقاء القبض على الجاني فجر اليوم الموالي بعد أن تعطلت سيارته بالقرب من أحد الأودية القريبة.المرأة اللغزأثناء محاولة القاضي معرفة تفاصيل صغيرة عن الجريمة التي ارتكبها المتهم في حق “الكلونديستان”، اتضح له أن المتهم يعد من أصحاب السوابق، وأن قضية من نفس النوع تم البت فيها في دورة جنائية سابقة، كان المتهم أدين فيها غيابيا بـ15 سنة سجنا نافذا ووضع اسمه في لائحة المبحوث عنهم بعد متابعته بجناية السرقة وانتحال وظيفة ضابط شرطة، كانت ضحيته فيها لأول وهلة امرأة من ولاية بالشرق الجزائري، قام المتهم نفسه باستدراجها إلى أحد الأودية بجنوب ولاية المسيلة، وهناك قام بتجريدها من ملابسها وربطها إلى جذع شجرة وسلبها سيارتها.الضحية في العقد الرابع من العمر، كان المتهم أوهمها بربط علاقة عاطفية، قبل أن يقوم باستدراجها إلى مكان معزول، حيث قام بربطها إلى جذع شجرة واستولى على سيارتها ومجوهراتها وهاتفها النقال وتركها في الخلاء، بناء على وعد باللقاء تم بينهما، وقدم لها نفسه على أنه ضابط شرطة، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي اقترح فيه عليها نزهة خارج المدينة، وفي مكان معزول عن الأنظار قام المتهم بإشهار مسدس كان بحوزته في وجه الضحية، ثم أنزلها بالقوة من السيارة واتجه بها نحو الوادي وقيدها إلى جذع شجرة بواسطة حبل، حيث جردها من هاتفها النقال والمصوغات التي كانت بحوزتها وغادر المكان على متن سيارتها، وما هي إلا سويعات حتى وقع في قبضة عناصر الأمن وهو على متن سيارة الضحية، وعثر بحوزته على مسدس بلاستيكي وقارورة غاز مسيلة للدموع، ليتم إيداعه الحبس.المواجهة مع الضحايالم يجد المتهم أثناء مواجهته بالضحايا سوى الاعتراف بالجرائم التي اقترفها، في مواجهة لا يرقى إليها الشك، خصوصا أن هذا الأخير ضبط متلبسا في كلتا الحالتين بقرائن تعود أصلا لملكية هؤلاء، قبل أن يتقدم آخرون كانوا بلغوا عن سرقات طالت هواتفهم النقالة ومصوغاتهم الذهبية وغيرها، بعد أن نجح طعم المتهم في استدراجهم أو استدراجهن وكان أكثرهم من النساء اللواتي كان يوهمهن بالارتباط بهن. الحــق العــام: “المتهــم بطــل هوليــــودي” ممثل الحق العام الذي ركز في مداخلته على خطورة الوقائع، أشار إلى أن سيناريو الاعتداء والطريقة المعتمدة في تجريد الضحية من سيارتها وتركها في مكان معزول ومحاولة تسميم الضحية الذي قام بنقله، لا يمكن معها وصف المتهم سوى بأنه ممثل بارع، لكن للأسف ليس على أرض هوليودية وإلا اكتملت الصورة وأخرجت لنا مسلسل رعب ناجحا بامتياز، ما ذكر الحضور بالنجم الهوليودي ليوناردو دي كابريو في فيلمه الشهير “أمسكني إذا استطعت”، ملتمسا في مرافعته معاقبته بالمؤبد. وسلطت محكمة الجنايات بمجلس قضاء المسيلة حكما بـ15 سنة سجنا في قضية المرأة، فيما أصدرت حكما بـ12 سنة سجنا نافذا و50 ألف دينار في قضية “الكلونديستان”، وبذلك يصل مجموع الأحكام إلى 27 سنة سجنا نافذا، وهي المدة التي سوف يمضيها الفتى العشريني الذي خرج ذات يوم من قريته باحثا عن مصدر رزق وراء أسوار السجن.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات