38serv
طالما يطرح الروائيون على أنفسهم أسئلة حول جدوى الكتابة ودوافعها. وقلما يقدمون إجابات مثل تلك الواردة في كتاب البريطاني ”جورج أورويل ”لماذا أكتب؟”. ويعرف عن أورويل أنه مؤلف رائعة ”1984”، وهي رواية سياسية بامتياز، قدّم فيها تحليلاً للفكر الاستبدادي ورؤية مستقبلية لما سوف تؤول إليه الأمور في حالة بقاء هذا الفكر سائدا في حياة البشر. ويقول أورويل في كتابه:« أكثر ما رغبت فيه طوال العشرة أعوام الماضية، هو أن أجعل من الكتابة السياسية فنّاً... ليس بإمكاني القيام بمهمة تأليف كتاب أو حتى مقالة طويلة لمجلة لو لم تكن أيضاً تجربة جمالية”. ويُعرف عن أورويل أنه بدأ كاتب مقالات، استقاها من تشرده ومن حياة العوز والفاقة التي قضاها وهو شاب.ويرى أورويل، أن كل الكتاب معتزين بأنفسهم، أنانيون وكسالى، وفي قاع دوافعهم يكمن غموض ما. ويعتبر أن تأليف كتاب هو صراع رهيب ومرهق كما لو كان نوبة طويلة من مرض مؤلم. لن يحاول المرء القيام بشيء كهذا أبدا لو لم يكن مدفوعا بشيطان ما هو ليس قادرا لا على مقاومته ولا فهمه إذ أن الغريزة ذاتها قد تكون هي التي تجعل رضيعا يصرخ من أجل أن يحظى بالانتباه.وإلى جانب هذا الدافع النفسي، يبقى الدافع السياسي هو الأقوى حسب أورويل، الذي يقول ”لا يمكنني القول بيقين أي دافع من دوافعي هو الأقوى، لكنني أعلم أنه يستحق أن يتبع وعند استرجاعي لعملي السابق يمكنني أن أرى دون تباين أنه حينما افتقرت للقصد السياسي كتبت كتبا بلا روح وخدعت إلى جمل قرمزية وجمل بلا معنى وصفات تزيينية وهراء بشكل عام.” وقد حاول أورويل في رواية ”مزرعة الحيوانات” بوعي كامل بما كان يفعل أن يمزج الهدف السياسي بالهدف الفني”. وعليه يمكن اعتبار هذه الرواية بمثابة عمل بارز في مقاومة نظام الحكم الشمولي، فهي لا تختلف من حيث تأثيرها على رواية ”1984”، حتى وهي تأتي على ألسنة الحيوانات.ويعتقد أورويل أنه يوجد أربعة دوافع أخرى لكتابة النثر توجد بدرجات متفاوتة لدى كل كاتب وعند كل كاتب ستكون النسب متفاوتة من وقت لآخر حسب الجو العام الذي يعيش فيه. أولا هناك دافع ذاتي محض يتمحور حول الاعتبارات التالية : ”حب الذات الصرف والرغبة في أن تبدو ذكيا، وأن يتم الحديث عنك، وأن تبقى تذكر حتى بعد الموت”. أما الدافع الثاني فيكمن في الحماس الجمالي، ومنح التجربة الشخصية مكانة أساسية حتى تكون الذات جزء من العملية الإبداعية.الدافع الثالث أسماه أورويل ”الحافز التاريخي، ويقصد به تلك الرغبة في رؤية الأشياء كما هي لاكتشاف حقائق صحيحة وحفظها من أجل استخدام الأجيال القادمة. أما الدافع الرابع فهو عنده الهدف السياسي. وباستخدام كلمة ”سياسي” وفق معنى أوسع، فنجده يقصد به تلك الرغبة في دفع العالم في اتجاه معين بغية تغيير أفكار الآخرين حول نوع المجتمع الذي ينبغي عليهم السعي نحوه، والوقوف بالمرصاد أمام كل النزعات المتطرفة. مرة أخرى لا يوجد كتاب يخلو من التحيز السياسي. فالرأي القائل بأن الفن ينبغي ألا يربطه شيء بالسياسة هو بحد ذاته موقف سياسي.ويكشف أورويل أنه مر بمرحلة ترجيح كفة الدوافع الثلاثة الأولى على كفة الدافع الرابع ”أي الدافع السياسي” لكنه بعد أن عرف حياة الفقر والشعور بالفشل بعد أن عرف حياة التشرد في شوارع باريس في ثلاثينيات القرن العشرين، أدى ذلك إلى تعاظم كراهيته الفطرية للسلطوية وجعله واعيا للمرة الأولى بوجود الطبقات العاملة لكن هذه التجارب لم تكن كافية لمنحه توجّها سياسيا دقيقا. بعدها جاء هتلر والحرب الأهلية في إسبانيا، وهي حرب أوروبية بالنيابة، وصراع بين الجمهوريين والفاشيين، فأدرك بشكل جلي أن السياسة هي التي تحرك العملية الإبداعية، لكن نجاح الكاتب في تحقيق هذه المهمة مرهون بقدرته على إضفاء اللمسة الفنية على عوالم مسكونة بالخراب والقسوة.أعتقد أن الرواية جنس أدبي مسكون بالألم، يعكس أوضاع تراجيدية، يذهب إليها المبدع، المهووس بحياة لائقة للبشر.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات