38serv
على الرغم من الزخم الإعلامي الكبير الذي صاحب حدث الأسبوع، المتمثل في الاستخبار العلمي الذي عرفه امتحان البكالوريا عبر الأجهزة الرقمية، فإن ذهني انصرف إلى تداعيات الظاهرة الرقمية في حد ذاتها، وطبيعة حرب المعلومات التي رافقتها، أكثر من حدث الغش الالكتروني في مواضيع البكالوريا، على اعتبار أن الذي حصل، تنبيه يؤكد على حاجة القطاع إلى المسارعة لاعتماد مقاربات علمية تربوية تضعه في عمق الثورة المعرفية التي يعيشها العالم من حولنا، لاسيما وأنه توجد دراسات وبحوث علمية توقعت واستشرفت انبثاق مثل هذه الأحداث، لذلك تابعت باهتمام شديد تفاعلات المجتمع الشبكي، الناتج عن الانفجار المعرفي وثورة الاتصالات، لأرى نبوءات كل من عالم المستقبليات ”ألفين توفلر” وعالم الاجتماع ”مانويل كاستلس” حول حروب المعلومات والمجتمع الشبكي تتحقق أمامي بشكل واضح تماما.لقد تحولت أنواع الحروب في المجال الاقتصادي، من حروب على الثروات المادية إلى حرب الاستخبارات الصناعية القائمة على حيازة المعرفة، باعتبارها مصدرا لخلق الثروة والتي تعرف بحرب المعلومات، حيث إن معارك كثيرة غير مرئية تحتدم يوميا، من أجل الحيازة على المعلومات التي تحتاج إليها الشركات الكبرى، في سعيها للتجديد المستمر للمعلومات المعرفية، حول ما لدى الشركة الأخرى المنافسة من خطط ومنتجات وأرباح وجديد رأس المال المعرفي تطور به المنتج، حيث يحتاج تجديد المنتج إلى مزيد من الابتكار والوقت والمال، فتصميم رقيقة أو شريحة إلكترونية يقتضي سنوات من العمل وملايين الدولارات، كما يقول ”جون هالامكا” في كتابه ”التجسس في سيليكون فالي”، بينما النسخ أو الهندسة العكسية، كما يطلق على الاستخبار الصناعي والذي تقوم به الجهة المنافسة أسرع وأرخص، فمن خلال تفكيك منتج منافس ومعرفة التكنولوجيا الكامنة فيه، تستطيع الشركة تضييق الفجوة بينها وبين منافساتها من الشركات الأخرى، في إطار الاستخبار التنافسي الاقتصادي، والهدف من ذلك كله هو التحكم في أهم مورد من موارد الإنتاج، والمتمثل في المعرفة مصدر القيمة المضافة، إنها حرب يقودها لصوص المعلومات وقراصنتها، وكما يقول ”توفلير”، كل هذا يسهم في تفسير امتلاك 80 0/0 من أكبر ألف شركة أمريكية، أطقما خاصة بها من جواسيس المعلومات، وكل ذلك يقف وراء الخلافات المستمرة بين الولايات المتحدة والصين حول الاستخبار الصناعي الذي وفره التطور المستمر والمتسارع للتكنولوجيا الرقمية.وفي ظل هذه المعطيات، يبدو جليا أن الأنظمة الرقمية غيّرت أنماط حياتنا وأساليب تعاملاتنا وطبيعة أعمالنا، وهي تمتد اليوم من القطاع الاقتصادي والاجتماعي، إلى المجال التربوي الذي بدا قديما وعتيقا في بعض جوانبه، وعاجزا عن استيعاب مستجدات التفاعلات الرقمية، التي ألغت مفاهيم المكان والزمان، عندما كان بإمكان أيا كان الشريك الرقمي في العالم الحصول على الأسئلة عبر موقع الفايسبوك لحظيا وآنيا ليملي على الطالب الجواب، ومن ثم بدت وكأن المعرفة تحارب نفسها في عقر دارها، أي في القطاع التربوي القائم على المجال العلمي والمعرفي، الأمر الذي يفرض علينا طرح أسئلة عميقة، حول كيفية علاج هذه المسألة، التي تتطلب تزامنا بين الإدراك والاستيعاب العميقين للبيئة الرقمية الدولية من حولنا، على اعتبار أننا جزء من تفاعلاتها ولسنا في عزلة عنها، وانعكساتها على جميع قطاعاتنا تأثيرا وتأثرا، أما السؤال الأهم الذي لم يتم التطرق إليه في التغطية الكبيرة لأحداث الأسبوع الماضي المرتبطة بالبكالوريا، فإنه يتعلق بمناهج التعليم ومدرسة المستقبل، لأن الذي سهل عملية الاستخبار العلمي هو مناهج الحفظ والتلقين من جهة، وطرق طرح الأسئلة وأساليب التقويم من جهة أخرى، ففي مادة الفلسفة مثلا التي تقوم الدراسة فيها على الجدليات والتحليل والتركيب والتأمل، وجدتُ الطالب فيها يحفظ المقالات حفظا أصما، ثم ينتظر أن يتضمن موضوع الامتحان إحداها، فيعيد كتابتها على الورقة كما حفظها، فيسهل على أي شخص أن يملي عليه المقالة، ويحصل على نقطة متميزة في المادة، وكذلك تجري الأمور على باقي المواد، الأمر الذي يتطلب التفكير في مدرسة المستقبل، وفقا لتفاعلات الثورة المعرفية والرقمية، التي يعيشها العالم، وذلك باعتماد مقاربات تربوية جديدة، تقوم على الدراسات المقارنة، وترتبط بالاستراتيجيات الساعية إلى تحقيق مجتمع المعرفة والتوصل إلى بناء اقتصاد مبني على المعرفة من خلال السعي إلى إصلاح مناهج التعليم وعصرنتها وتحديثها وتخليصها من الطابع المعلوماتي الكمي، والعمل على التجديد المستمر لمضامينها المعرفية، وأن تكون المناهج قائمة على التحليل والتركيب والابتكار والإبداع والتساؤل والنقد، بدلا عن التلقين والحفظ، الذي يكرّس الوصاية والتأطير، ويبتعد بنا عن الإبداع والشغف بالبحث العلمي، وبما يصل بناء إلى بناء مدرسة إبداعية تفاعلية، مواكبة للتحولات الكبرى الجارية في مجال التعليم في العالم من حولنا، وحينئذ لن يحتاج الطالب إلى تدفق المعلومات عبر الأجهزة الرقمية، بقدر ما يحتاج إلى اجتهاد مبني على اعتماد مناهج توظف المعلومة ولا تسردها، وفقا للطرق المباشرة في طرح أسئلة الامتحان، ولذلك يمكن دراسة مسألة توفير كل مصادر المعلومة للطالب ومحاسبته على كيفية توظيفها والإبداع في التعامل معها، بهدف الابتكار أكثر من الوقوف على توافر المعلومة في حد ذاتها.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات