+ -

من كرم اللّه تعالى لأمّة المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه يفتح دائمًا وباستمرار وعلى مدار الأيّام والشّهور والأزمان بفواتح كلّها خير ومعها الخير، وفى جملتها السّعادة والقُرب من ربٍّ كريم لا يرضى لعباده إلاّ أن يتفضّل عليهم دائمًا بكرم منه وزيادة. فصلوات خمس على مدار اليوم كفّارة لما بينهنّ، وزكاة تطهّر المال من داء البخل والشحّ، وحجّ ليس له جزاء إلاّ الجنّة، وصيام رمضان شهرًا به تكون الرّحمة فى أوّله ثمّ المغفرة فى أوسطه، ثمّ جائزة كبرى لا يمنحها إلاّ الكريم الجواد، جائزة العتق من النِّيران، بخلاف ما يكون من عتق كلّ يوم من أيّام رمضان، هو الّذي خلق فسوّى وقدَّر فهدى، وأعطى ورزق، وشرَّفنا بأن جعلنا له عبادًا ولجلاله عُبَّادًا.إنّ شهرًا كرمضان بعظمته وخيراته لفرصة كبيرة تتطلّب من العاقل أن يستعدّ له قبل هلاله وتشريفه، فنعم الضّيف هو، فهو يستحقّ من الآن شحذًا للهمم، فهو الّذي خصّصه المولى بقوله: “الصّوم لي وأنا أُجزي به”، فيا أيُّها الحبيب استعد للشّهر الكريم بحسن التعرّف على اللّه، ومعرفته حقّ المعرفة، وعقد النيّة وتجديدها باستمرار للّه وحده لا شريك له في كلّ الأعمال؛ صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها.فالقلب الّذي يعرف صاحبه اللّه هو قلب يحمل نورًا يشعّ به عليه، ويدفعه لكلّ خير وفائدة، فصلاح قلب العبد يجعل الصّلاح العام ثمرة حتمية لسائر جسده، فتتجّمل الأخلاق، وتنهض السّلوكيات، فيكون المرء متميّزًا؛ فتجده في مطعمه ومشربه لا يأكل ولا يشرب إلاّ الحلال الطيّب، ويده لا تمتد إلى الرّشوة ولا الاختلاس ولا النّهب، كما أن لرجله خاصية الصّالحين فلا يمشي بها لمُنكر، ولا يسعى بها لشرّ، ولا يحرّكها إلاّ لإرضاء خالقه ومولاه.واتّباع المصطفى صلّى اللّه عليه وسلّم ومحبّته أيضًا من وسائل الاستعداد لرمضان الخير، وذلك بمُذاكرة ما كان يفعله في رمضان وقبل رمضان، فنتخلّق بخلقه، ونتأدّب بأدبه، ونتعلّم بعلمه، وننتهج بنهجه، ونعمل لدينه ودعوته، ونبذل الخير للنّاس كما كان يبذله صلّى اللّه عليه وسلّم.ورمضان الخير يتطلّب من الآن جلسات للمُحاسبة قبل أن يأتي ويرحل، فالمسلم إذا أراد أن يحيا حياة الصّالحين الربّانيين وجب عليه دائمًا محاسبة نفسه حسابًا شديدًا، ليَجعل من المحاسبة الدّواء من كلّ داء، والشّفاء من كلّ سقم وبلاء، ويطهر بها بدنه، ويرفع بها قدره وشأنه، ويُسعد بها نفسه وغيره؛ فليكن كلّنا محاسبًا لنفسه نهاية يومه، ولتكن لنا ساعة نحاسب أنفسنا فيها على ما أحسنت فيه طوال يومها وعلى ما فرّطت فيه، فإن وجدناها أحسنت سجدنا لربّنا شاكرين، وإن وجدناها قصرت أنبنا لربّنا بذل وسؤال، راجين منه العفو والمغفرة.يقول الفاروق عمر رضي اللّه عنه: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أنّ ملك الموت قد تخطّاكم إلى غيركم، وسيتخطّى غيركم إليكم، فخذوا حذركم، الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على اللّه، وتجهّزوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ}”، ويقول الحسن البصري رحمه اللّه: “المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه للّه، وإنّما خفَّ الحسابُ يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدّنيا، وإنّما شقّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة”، ويقول وهب بن منبه رحمه اللّه: “مكتوب في حكمة آل داود: حقّ على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يُناجي فيها ربّه، وساعة يُحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الّذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلو فيها بين نفسه وبين لذّاتها في ما يحلّ ويجمل، فإنّ في هذه السّاعة عونًا على تلك السّاعات وإجمامًا للقلوب”.وممّا يستعد به لهذا الشّهر طهارة القلب، فلا ينام أحدنا وفي قلبه شيء من بغض أو غل أو حقد أو حسد لأحد من إخوانه المسلمين، فذلك كفيل بدخول الجنّة، وممّا يحسن الاستعداد به أيضًا تذكر الموت باستمرار لحظات الاحتضار وخروج الرّوح إلى بارئها العزيز الغفّار، وأنّه قد لا يأتي علينا رمضان القادم، فكثير ممّن كنّا نحبّهم فقدناهم فى رمضان وقبل رمضان، فلحظات الرّحيل عن الدّنيا هي لحظات من وقتها يتحدّد للمرء المصير إمّا إلى جنّة وإمّا إلى نار. واللّه وليّ التّوفيق.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات