يرى الباحث الجامعي، الدكتور بومدين بوزيد، أنّ الأمّة الإسلامية “تعيش صراعا ماضيا لا ينتمي إلى عصرنا”، وأضاف إنّها “تبقى معلّقة نفسيا وثقافيا بمأساة كربلاء وبسجن أحمد بن حنبل وابن تيمية وصراع الإمامة في القرن الأول الهجري، وقضايا كلامية في التفكير ومرتكب الكبيرة، وهي مصادر إيديولوجية الولاء والبراء اليوم”.وحذّر بومدين في حوار مع “الخبر” من أنّ الأمّة الّتي تتّخذ من الحرب شرعيتها، فاشلة في إيجاد شرعية بديلة لجيلها الحاضر، معتبرا تجنيد الشّباب من خلال الفايسبوك وشبكات التّواصل الاجتماعي الأخرى، أو وعد بالمال، بـ”المأساة”، متسائلا في الوقت نفسه “أين طاعة الوالدين وطاعة وليّ الأمر، بمعنى مؤسسات الدولة اليوم” في الاستئذان للخروج للجهاد؟! وهل هو إخفاق المؤسسة العائلية والتربوية والمسجدية؟ أم إخفاق الدولة في تكوين المواطنة والتربية، رغم التجربة التسعينية المظلمة التي مرّت بها.هل تعتقد أن فوضى الفتوى وراء التشدّد؟ الرّأي والفتوى الفردية لا يمكن منعها في ظلّ الحريات وانتشار الوسائط الجديدة، كما أنّ العمل السياسي في العالم العربي يلجأ إلى الرمزية الدّينية والتّقليدية للإقناع أو المُراوغة أو كسب الرّأي العام، أو له قناعات بكون الدّين واعتماده مرجعية مسألة مبدئية. من هنا لا يمكن الحَجر على الفتوى، الّتي غالبا تختلط عند مُصدّريها أو الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين بالرّأي الدّيني، أي الرّأي المُؤول للدّين، الّذي يبقى اجتهادا شخصيا أو جماعة تكسبه القدسية بإلباسها عباءة مخيطة بمجموع آيات أو أحاديث أو آراء فقهاء من التّراث. إذن “أمن الفتوى” من الفوضى وما تُسببه من اهتزاز اجتماعي، ومن اعتداء على حرية الرّأي والمعتقد، ومن الصّدام مع الدّولة الّذي قد ينتهي إلى الاعتداء وإعلان العنف باسم الجهاد، هذا “الأمن” يتطلب مؤسّسات دينية، سواء أكانت رسمية أو حرّة تنشط ضمن القانون واحترام خصوصية الانتماء المذهبي والتاريخي والثقافي، ويوازي ذلك الذّهاب نحو “الدولة المعاصرة” الّتي مرجعيتها القانون والمؤسسات الحديثة واستقلاليتها، ولا تعتمد في انتخاباتها وتسييرها للشّأن السياسي ودواليب السلطة على “شرعية الرمزية” أو “الاستحواذ على ما هو مشترك بين المواطنين” من قيم تاريخية ودينية وحضارية ولغوية.هل تعتقد أنّ دفتر الشّروط المنظّم لوسائل الإعلام ينصص على “سبل منع فوضى الفتوى وانتهاك الخصوصية الحضارية لكلّ مجتمع”؟ نعم، دفتر الشّروط المنظم لوسائل الإعلام ينصص على “سبل منع فوضى الفتوى وانتهاك الخصوصية الحضارية لكل مجتمع”. إنّ التّرويج للحلال والحرام في التّعاملات المالية والاقتصادية والاستهلاكية، يحدث الارتجاج وحالة الخوف من الحرام عند المواطن، وهو ما يخلق “حالة نفسية عدائية تجاه الدولة”، وهذا العداء يكوّن أزمة الثقة ويلوّث “الفضاء العام”، فيكون التشدّد.إنّ الّذين يحشرون النّصوص وتأويلها في الشّأن العام، رغم “أنّ الأصل في الأشياء الإباحة” و”أنتم أعلم بأمور دنياكم”، يسكتون عن التهرّب من دفع الضّرائب وعن بيع العملة الصّعبة الّتي تهدّد الاقتصاد الوطني، بل يفتي لهم بعض هؤلاء أنّه مادام يدفع الزّكاة، فيمكنه التهرّب الضريبي، وباسم “المرابحة” والبنوك الإسلامية تربح بعض المؤسسات أضعافا مضاعفة من جيوب المواطنين البسطاء. وهذه البنوك هي الّتي تحدّد لك المفتي الّذي يفتيك في تعاملاتها المالية، ويتقاضى هؤلاء أجورا على فتواهم وإحداث حالة “اللا أمن النّفسي” عند المواطن البسيط الّذي يرى صلاته تنهيه عن الفحشاء والمنكر، ولكن أيّ فحش أكثر من الهروب من العمل، والزّيادة في السّرعة في الطّريق، وسرقة الكهرباء والماء، والتّجارة في العملة الصعبة، وتوسيخ الشّارع، وحرق الطوابير في الأماكن العمومية، وضرب النّساء.هل تعتقد أنّ فكرة “الجهاد” تحلّ محل العلماء والمشايخ؟ نحن محتاجون اليوم إلى تفعيل تراث “المشيخة” الّتي تعني في ثقافتنا “التربية والتزكية والطاعة والإذن”. هذه الأصول الأربعة هي كذلك ميراث نبويّ، فقد كان جبريل عليه السّلام “شيخا” لنبيّنا عليه الصّلاة والسّلام، أي شيخ تربية أوّلا وشيخ علم ثانيا، والعلاقة هنا الاستجابة للأوامر الإلهية ثمّ الإذن ببثّها بين النّاس.لقد صارت “المشيخة الكتبية” من الكتّاب مباشرة والجلوس إلى بعض المشايخ لأيّام معدودة في الحجّ والعمرة، أو التلقِّي مباشرة من القنوات الفضائية هي الّتي تؤطّر “المشيخة السّريعة” أي مشيخة “فاست فوود”، فالعلم يصبح هو حفظ أحاديث البخاري واقتناء ابن تيمية وابن القيم الجوزية، والاستماع إلى دروس الّذين فرّقوا السّلفية الوهابية إلى قدد وكلّ شيخ منهم يلعن الآخر، وها هي حال اليمن وبعض مناطق القتال الدموي في بعض بلداننا العربية.أعجب حين كنت أسمع وما زال الدّعاء للمجاهدين في منابر المساجد، الجهاد منذ قرون هو تحرير الأرض من الاحتلال، منذ نشوء الرباطات الّتي قام عليها العلماء والمشايخ، ولكن اليوم هناك مؤسّسات دفاعية قانونية هي الّتي تتولّى الدّفاع عن الأرض وقيم شعوبها، نحن الآن محتاجون إلى مراجعة راديكالية لتراث “الفقه الجهادي” الّذي هو بشري. ما زلنا نورد نصوصا عن أسيرات الحرب وحكم الدّين فيها في كتب الفقه، إنّ باب “الجهاد” في كتب الفقه التراثية متلوّن بالشّرط التّاريخي الّذي عاشوه، وحتّى تدريس تاريخ الحروب والثّورات يصبّ في مجرى “ثقافة القتل” ثقافة نفسية تقوم على الكراهية ورفض الآخر، ونعيش صراعا ماضيا لا ينتمي إلى عصرنا، نبقى معلّقين نفسيا وثقافيا بمأساة كربلاء وبسجن أحمد بن حنبل وابن تيمية، الأمّة الّتي تتّخذ من الحرب شرعيتها فاشلة في إيجاد شرعية بديلة لجيلها الحاضر، أي مأساة كذلك أن يكون تجنيد شبابنا من خلال الفايس بوك وأشكال التّواصل الاجتماعي، أو وعد بالمال، أين طاعة الوالدين وطاعة وليّ الأمر “معناه اليوم الدولة”.إنّنا اليوم نعيش صراعا حقيقيا.. من يستطيع توجيه ملايين الشّباب نحو مجتمعات متطوّرة تحفظ حياته وكرامته وقيمه، ومؤسّسات تسيّر الشّأن الدّيني ليس تنظيم العبادة ورؤية الهلال، ولكن على الدّولة إدراك أن الشّأن الدّيني هو تربية وثقافة وتواصل اجتماعي يقوم على المحبّة والصّداقة والتّعايش، أي نحن هنا أمام “مؤسسة دينية رسمية أمنية” تكون لها امتيازات وزارات السّيادة نفسها، والحاجة إلى مراكز ومراصد بحثية تحمي خصوصيتنا الحضارية وتدفع نحو الاجتهاد والتّجديد وأمن شبابنا من التطرّف والعنف والإرهاب.كيف نحقق التوافق بين حرية التعبير والحفاظ على الأمن الثقافي والخصوصية الحضارية؟ هي معادلة إحراجية وتحقيقها اجتهاد وقدرة قانونية وسياسية وتنظيمية، نحن ضد منع حرية التفكير والتمذهب، وهناك اليوم وسائط اتصالية متطورة يمكن لأي كان من الشباب الدخول إلى ما نمنعه من كتب وأفلام تحريضية تدعو للجهاد. ولكن أن يتحوّل هذا التفكير أو ذاك إلى طائفة أو مجموعة تحاول فرضه على الآخرين والتشويش بها على وحدة الجماعة، أو يقع الخلط بين ما هو تعبّد وما هو ثقافة وعادات، فهو التشويش على المجتمع والدولة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات