38serv

+ -

 ما هو الترفيه؟ تختلف الإجابة على هذا السؤال من شخص إلى آخر. فالتسوق لدى بعض النساء يُعد شكلا من أشكال الترفيه والتسلية، وضربا من العقاب بالنسبة لبعض الرجال إن لم يكن جُلّهم. وحَلّ معادلة في الرياضيات بالنسبة للبعض ترفيه، وشقاء بالنسبة للذين لا يملكون سوى ذكريات حزينة عن معاناتهم في مادة الرياضيات أيام المدرسة أو الثانوية. ومشاركة الرَّبْع في لعبة ”الدومينو” ترفيه يمتع الذين يمارسونها، ومضيعة وقت لمن يأنفها، وهكذا دواليك. إذا من الصعب تحديد ما هو الترفيه؟ أبدا، يجيب المختصون، بدليل أن كل محاولة لتعريف الترفيه في الثقافة الغربية تحيلنا إلى أصل الكلمة اللاتينية في القرن السابع عشر، والتي تعني ”إدارة الظهر أو الانصراف عن.. ”. فالفيلسوف الفرنسي ”بلاز بسكال” الذي يُعد من الفلاسفة الأوائل الذين اهتموا بالترفيه، يعرفه بأنه ممارسة التهرب، وهي خاصية من خصائص وجود الإنسان. أي انصراف الإنسان عن التفكير فيما ابْتُلي به وإدارة ظهره للواقع الذي يكدره. ولعل الثقافة العربية تختلف في فهمها للترفيه عن الثقافة اللاتينية، فكلمة الترفيه تحيلنا، في اللغة العربية، إلى فعل رَفَّهَ ومنه اشتقت صفة رَفاَهِيَة. فهل يمكن الاستعجال في الاستنتاج بأن الثقافة العربية ترى الترفيه سمة وضع اجتماعي يقترن بمستوى المعيشة الجيد، أي الرفاهية؟ وهذا يعني أن المرفهين هم الذين يتمتعون بالترفيه دون غيرهم، وذلك لأن الترفيه يقتضى وقتا يصرف خارج العمل، أما غير المرفهين فليس لهم سوى العمل، وبالتالي فهم مقصون من الترفيه.إن معاداة الترفيه أو تأثيمه ليست بنت أفكار اليوم، ولو بحثنا عن أسبابها لوجدناها متعددة ومختلفة. فالفيلسوف المذكور المتشبع بالروح المسيحية ندد بالطريقة التي تجعل الترفيه يأخذ ما هو لهوي مأخذ جد. والأكثر من هذا أنه رأى في كتابه الموسوم ”أفكار” أن الشيء الوحيد الذي يواسي بؤسنا هو الترفيه. لكن في الترفيه يكمن شقاؤنا لأنه يعيقنا عن التفكير في أنفسنا، ومن دونه نعيش الملل، الملل الذي يدفعنا إلى البحث عن السبيل المفلح للخروج من وضعنا الصعب.نعتقد أن رؤية هذا الفيلسوف للترفيه، والتي تعود للقرن السابع عشر، أصبحت متجاوزة. وما يؤكد تجاوزها هو زيادة عدد المقتنعين بصواب الشعار التالي: ”لنتعلم بالتسلية” الذي أعطى للعب بعده التعليمي والتربوي، وأعاد النظر في برامج المنظومة التعليمية  وأساليبها التربوية. فالترفيه عبر اللعب لم يعد يعني الهروب من الواقع، بل اكتسب معاني أخرى تتمثل في الاستعداد لمواجهة الواقع والتصدي له. فإضافة لضرورته البيولوجية يطور اللعب ملكة التذكر والانتباه، ويعزز شعور اللاعب بالمسؤولية، وينمي قدراته على سرعة اتخاذ القرار، ونقل الرموز والإشارات من لغة إلى أخرى. لذا نلاحظ تراجع نزعة العداء للترفيه في حياتنا المعاصرة بعد أن تطورت الألعاب المختلفة وزاد انتشارها وازدهرت أنواع الفنون واتسعت جماهيريتها بتمدد أوقات الراحة من العمل، وظهور المركبات الصناعية لإنتاج التسلية، سواء على صعيد عُدّتها التكنولوجية أو مضامينها.إن التراجع المذكور لا يعني بتاتا زوال التوجس بمخاطر الترفيه وتداعياته على الإعلام والثقافة والتربية، خاصة بعد أن ساهمت تكنولوجيات الاتصال الحديثة في محو الحدود بين القطاعات المذكورة واللعب، وهيمنت الصورة على الاتصال والثقافة والمعرفة، فأضفت الطابع الاستعراضي على الكثير من الأفعال والأنشطة الجادة، مثل المودة والتجميل والطبخ والغناء والسياحة وحتى النشاط السياسي. فالروائي البيروفي ”ماريو فرغس ليوسا”، الحاصل على جائزة نوبل للآداب في 2010، يرى أنه حينما يتحول كل شيء إلى ترفيه يمكن للثقافة الحقّة أن تندثر. فالأدب يرغبك في أن تعيش حياة أخرى لم تُمنح لك، ويجعلك تدرك أن العالم ليس على ما يرام، بينما ”ماكينة” الترفيه تثبت لك العكس وتخبرك أن العالم على أحسن ما يرام، وأننا هنا من أجل أن نتسلى. ويستطرد هذا الروائي قائلا: إن التأثير التنويمي للترفيه على الوعي المنزوع من كل فكر نقدي أو تمردي يمكن أن يكون مأساويا على مستقبل البشرية.هل يمكن مشاطرة هذا الروائي نظرته الفلسفية المتشائمة للترفيه؟ الإجابة يقدمها الجزائريون. فلنلاحظهم في رحلتهم السياحية خارج وطنهم إن اعتبرنا السياحة ضربا من الترفيه، إنها تقرصهم لتذكرهم أن حياتهم ليست لا على ما يرام، ناهيك عن حالة بلدهم. أو لنستمع إلى الأهازيج التي يرددها الشباب الجزائري في مدرجات الملاعب أثناء متابعاتهم لمباريات كرة القدم. أليست مشاهدة هذه المباريات شكلا من الترفيه؟ أهازيجهم تبيّن أن الترفيه لم ينسهم واقعهم، وربما هنا يكمن مصدر القلق من الترفيه.   www.nlayadi.com

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات