عندما يدعــو مؤسـس فايسبـوك لقراءة ابن خلدون

+ -

 عام من الكتب، مبادرة أطلقها ”زوكربرغ” مؤسس فايسبوك أمام نفسه تحديا، يدعو من خلاله ذاته والمتواصلين إلى قراءة كتاب كل أسبوعين خلال 2015 وطرحه بعد ذلك للنقاش، وكانت مقدمة ابن خلدون الكتاب رقم ”11” في قائمة مارك باعتباره ”تاريخا للعالم” يطرح قضايا المجتمع والثقافة والمدنية والعلوم والسياسة والتجارة.                                      عندما قرأت هذا الخبر، انصرف ذهني مباشرة إلى مواقع التواصل الاجتماعي، طبيعتها الشبكية، وإيقاعها المتسارع، وكذا تفاعلاتها الأفقية المسطحة، وإلى أي مدى يمكن أن تتحمل تواصلا معرفيا عميقا ومركبا، مثل كتاب نهاية السلطة الذي كان الأول الذي طرحه ”زوكربرغ” أو كتاب ابن خلدون، ثم تذكرت كتاب العالم الأمريكي ”روبرت بونتام” أحد منظري مفهوم رأس المال الاجتماعي الذي أكد من خلاله على أهمية شبكات التواصل الاجتماعي في تنمية رأس المال الاجتماعي، بما يتضمنه من قيم التبادل والدعم والمساندة، وكذا آليات التفاعل الاجتماعي، فهل انتقل الاهتمام لدى مراكز التفكير الغربية من التواصل الاجتماعي إلى التواصل الفكري والمعرفي، حيث تلعب الشبكات ذاتها دورا في تنمية رأس المال المعرفي، ولصالح من هذه المرة، بعد الدور الاستراتيجي التدميري الذي لعبته مواقع التواصل الاجتماعي تحت رعاية القوى الدولية في تدمير الشرق الأوسط الصغير – الكبير.      إن الخبر لافت، ويتطلب وقفة تأملية من منطلق سياسي على وجه الخصوص، على اعتبار الآثار السياسية التي خلفتها مواقع التواصل، من خلال الدور المفصلي الذي لعبته أيام الحراك والاحتجاجات العربية أو ما سمي الربيع العربي، والمسارعة إلى التعبير عن هذا النوع من التواصل الافتراضي والانطباعي ــ الاسترجالي، والمباشر بالثورة المبشرة بالتغيير الجذري، وغيره من مصطلحات تضمنت الكثير من التضخيم حينها، رغم أن ذلك النوع من التواصل كان فارغا من أي اجتهاد معرفي، يحلل تلك التموجات المتدافعة على مستوى الواقع تحليلا علميا ذا بال، على عكس ما كانت تقوم به مراكز التفكير وخزانات الفكر في الغرب، بل على عكس ما كانت تراه وتتوقعه تلك المؤسسات.    فمن الناحية السياسية، يمكن القول بأن ما سمي بالربيع العربي، نتاج ما بدا أثرا لتفاعلات شبكية معلوماتية ذات امتداد أفقي سطحي، يفتقد إلى الفكرة والبرنامج والقيادة، انتهى إلى واقع أسود وطريق مسدود، حيث إن الشبكة في طبيعتها وديناميكيتها مختلفة تماما عن المؤسسات التقليدية التي تقوم على المركزية والهرمية والهيكلية، فالشبكة مرنة وديناميكية ولامركزية وترفض التصلب، وهي تعمل على التغذية المستمرة المباشرة من خلال الانطباع والاسترجال أكثر منه عبر التأمل والتحليل.. الخ. كما تتعامل مواقع التواصل الاجتماعي كثيرا مع الصورة ذات التأثير القوي في صناعة الرأي العام، بعد توظيفها من طرف الفضائيات المختلفة، استغلالا لطبيعتها الانفعالية والدرامية ــ العاطفية بعيدا عما هو عقلاني وعلمي وتأملي.. الخ. ومع ذلك، أطلقت كلمة ثورة على نتائج هذا النوع من التواصل الافتراضي، إلى الدرجة التي جعلت عالم المستقبليات ”ألفين توفلير” يعلق في آخر كتبه ”الثروة الثورية”، بأن الثورة هذه الأيام كلمة يتقاذفها الناس بصورة عرضية، حتى أنها اقترنت بأنظمة الحمية الغذائية. وبالوقوف على ما انتهى ذلك النوع من التواصل في تأجيج نار فتن كثيرة، كانت نتيجتها قتل مئات الآلاف من المسلمين، وملايين من اللاجئين، وانهيار دول بكاملها، وضياع مقدراتها، وحالات انبثاق لجماعات مسلحة تأكل الأخضر واليابس في طريقها باسم الدين والإسلام، مع العودة بأثر رجعي لتلك الحماية والتأييد والدعم التي كانت توفرها القوى الدولية لمواقع التواصل أيام الاحتجاجات العربية، وكذا دورات التدريب التي كانت تمولها لقادة تلك الموجات من التواصل التفاعلي، الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل بقوة عما إذا كانت دعوة ”زوكربرغ” عفوية وبريئة، بعد أن أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي سلاحا أمضى نووية، من حيث ما يخلفه من دمار؟ أم أنها مرة أخرى واحدة من إشارات رواد خزانات التفكير، لإنضاج مضمون الشبكات المارقة والخارجة عن نطاق السيطرة؟ وهل يعتبر اختيار ابن خلدون نفسه بريئا؟ أم أنها خدعة أخرى لإغراق العرب في عالم من النوستالجيا، لاسيما بعد رد الفعل العفوي من العرب المعجبين بقرار ”زوكربرغ” قراءة ابن خلدون وطرح المقدمة للنقاش؟ذلك هو السؤال السياسي، أما السؤال العلمي فإنه يرتبط بمدى تحمل الشبكة المرنة العديمة البنية والانسيابية الأفقية والمسطحة والمتسارعة الإيقاع، إدراج طروحات معرفية عسيرة الهضم وثقيلة الدسم، على شباب تعود على الانطباعية والاسترجال، وعدم الصبر على التعمق في البحث والاستكشاف، أم أن نادي ”زوكربرغ” الخاص بطرح هذه الكتب للقراءة والمناقشة عبر فايسبوك خاص بفئة معينة، وإن كان عدد رواده منذ انطلاق المبادرة قد تعدى المائتي ألف من المتواصلين؟ وأخيرا هل نحن فعلا بصدد التحول من تنمية رأس المال الاجتماعي إلى تنمية رأس المال الفكري؟ أم أن الموضوع كله لا يعدو كونه بالون اختبار؟

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات