+ -

 أن تخيّر الألفاظ للمعاني المتداولة المألوفة أسهل وأقرب من تخيّر الألفاظ لمعان مبتكرة، فمن المعترف به أنّ فصاحة العرب كان أكثرها في وصف الأطلال والحنين إلى الأحبّة والإبل والصّيد، والغزل والمدح والفخر والهجاء.وإنّ البلاغة في هذه الأشياء المحسوسة متّسعة جدًّا لأنّ طبائع أكثر النّاس تكون مائلة إليها، كما أنّ كثيرًا من الشّعراء عالجوا هذه النّواحي، فعلى هذا يكون المتأخّر المتّبع لأقوال الشّعراء الّذين سبقوه تحصل لهم مَلَكَة في البلاغة في هذه الميادين بعد الممارسة. وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم رأيناه لم يتعرّض لهذه الأشياء البتّة، فكان من الطّبيعي أن تحصل فيه الألفاظ الفصيحة الّتي اتّفقت العرب عليها، ولكن القرآن تعرّض لنواح أخرى لم تكن معهودة عند العرب كالتحدّث عن اللّه وعظمته ووصف قدرته، والدّعوة إلى عبادته، وتنزيهه عمّا لا يليق به، ووصف ما أعدّه من النّعيم للّذين يطيعونه والعذاب للكفرة والعاصين، وكذلك يقصّ القرآن الكريم أنباء الرّسل مع قومهم، وما تحتويه من العِبَر وأنواع العبادات، والحثّ على مكارم الأخلاق وتحريم القبائح، وأسس التّشريع في المال، والحكم والأسرة وغير ذلك.. وأمثال هذه الأمور تستعصي على البليغ فلا يستطيع التّعبير عنها ببلاغته المعهودة.وإذا تمعنّا في آيات القرآن الكريم نراه عالج جميع هذه الأمور في نهاية الفصاحة واستخدم لذلك ضروب التّأكيد، وأنواع التّشبيه والتّمثيل، وأصناف الاستعارة وغير ذلك من فنون البلاغة الّتي بهرت قرّاء العربية في جميع العصور.فمِن أين لأمي كالنّبيّ عليه السّلام أو متعلّم مهما أوتي من العِلم أن يؤلّف ستة ألاف آية (عدد آيات القرآن على التّقريب) بهذه الفصاحة والاتساق؟ إنّ في ذلك لآية على أنّ القرآن منزَّل من عند اللّه جلّ علاه.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات