يرى الروائي واسيني الأعرج الذي حصل مؤخرا على جائزة “كتارا” للرواية العربية، أنه لم ينفصل عن الواقع الجزائري في أعماله الروائية الأخيرة، بقدر ما أصبح يهتم أكثر بالمواضيع الإنسانية، التي تشغل القارئ، ليس في العالم العربي، بل في العالم برمته، معتبرا أن الاشتغال على الهم الإنساني يعطي النص الأدبي حضوره القوي. وذكر واسيني في حوار لـ “الخبر” أنه لن يكتب سيرته الذاتية، إلا إذا استطاع أن يكتبها على طريقة “نيكوس كازانتزاكيس” في كتابه الشهير “تقرير إلى غريكو”.ماذا تغيّر في سمات الرواية العربية اليوم، مقارنة بجيل الرواد؟ أعتقد أن الجيل الأول من الروائيين كان على عاتقه واجب التأسيس، فروائي مثل نجيب محفوظ جعل الرواية العربية حالة مقبولة من الناحية الأدبية لأننا نعرف أن هيكل الذي كتب رواية “زينب” سنة 1914، جاءت على شكل تقليدي، وقوبلت بالرفض لكونها جنس أدبي مشبوه، قد يتهم صاحبه بالعلاقة مع الغرب، أو تسويق الثقافة الغربية. مع نجيب محفوظ أصبحت المسألة قاعدة ومسلّمة من المسلّمات، حيث حازت الرواية على الانتماء للعالم العربي. أما الروائيين الذين جاؤوا بعد نجيب محفوظ أمثال عبد الرحمن منيف وغيره فقد رسخوا هذا الجنس الأدبي، بعدها تعاقبت الأجيال بعد انطفاء الجيل الأول. وهذه الأجيال بقيت تحتفظ بعلاقة مع الأجيال القديمة، لكنها تركت ملامسها في النص الروائي، بما كانت تملكه من قوة وطاقة إبداعية. أعتقد أنه يوجد حلقات مترابطة، وهذه الحلقات من الناحية الإبداعية تصعد وتنزل، بحيث أنه قد يوجد جيل فيه أسماء كبيرة مثل جيل نجيب محفوظ الذي كان فيه توفيق الحكيم وطه حسين، لكن هناك في المقابل أجيال قد تخفت أسماءها، فجيل الستينيات مثلا لم يحمل سوى أسماء أدبية قليلة، مثل غالب هالسا والطاهر وطار وجمال الغيطاني وصنع الله ابراهيم. أما اليوم فهناك أسماء روائية كثيرة من الجيل الجديد استطاعت أن تفرض نفسها على الساحة الأدبية العربية. وما هي ميزة الرواية المغاربية اليوم؟ الرواية المغاربية غير مستقرة في المقدس الأدبي، لقد تجاوزت الشكل الذي تركه نجيب محفوظ الذي ندين له بالكثير. هنا في المغرب عندنا اختراقات لهذا النوع الأدبي، فالمسعدي في تونس اخترق المحفوظية بحكم اتصاله بالغرب وبالفلسفة الوجودية، وبحكم علاقته بروائيين وفلاسفة أمثال كامي وسارتر. لقد استطاع أن ينجز نصا مختلفا. وبصفة عامة أرى أن النص المغاربي له طاقة كبيرة من الحرية الداخلية. وفي الجزائر نجد أن روائي مثل عبد الحميد بن هدوڤة في رواية “الجازية والدراويش”، أو الطاهر وطار في رواية “عرس بغل”، حققا هذا الاختراق من حيث العلاقة مع التراث، حيث أصبحت علاقة متحررة وليست مقدسة. هذه الظاهرة موجودة في المغرب العربي، لأن التراضي مع الثقافة الغربية مسألة مهمة جدا، حيث تمنح إمكانية تجنب التقليد.أنت تصر على التجريب، هل تفضّل هذا الخيار لأنك لم تستقر على طريقة معينة للكتابة؟النص الأدبي يتحدد بموضوعه، والفكرة هي التي تحدد الشكل الروائي. فرواية “مملكة الفراشة” مثلا أخذت نظاما سرديا جاء فيه الحكي بشكل قليل لأن الموضوع مرتبط أكثر بالعالم الافتراضي، وهذا يتطلب لغة سريعة. أما رواية “نوار اللوز”، فنجدها تقوم بنيته على السيرة الهلالية، وهنا نجد الحكاية تحتل مكانة مهمة، بحكم أن الشخصية ليست موضوعية وبسيطة، بل مرتبطة بكثير من العناصر الأسطورية. وعليه، فإن بناء هذه الشخصية الموازية لشخصية أبو زيد الهلالي، ينعكس حتما على الشكل الروائي. أما في رواية “الليلة السابعة بعد الألف”، فهناك قرب مع “ألف ليلة وليلة” ورواية أصابع لوليتا”، نجدها قريبة من رواية “لوليتا” لـ”فلاديمير نابوكوف”. لقد قمت هنا بعمل توليفي بين الشخصية التي أنتجتها وبين المحمول الذي تحمله شخصية “لوليتا” في رواية “نابوكوف”. لا يوجد رواية تشبه أخرى فكل موضوع يحمل شكلا مختلفا. والآن تجدني أجد صعوبة في روايتي الجديدة التي اخترت لها عنوان “حكاية العربي الأخير”، حيث لم أجد الإطار أو السياق الذي أضع فيه الشخصية، التي أبنيها ذهنيا ومن الصعب إيجاد قالبها الروائي.يلاحظ في السنوات الأخيرة أنك انتقلت إلى مواضيع مرتبطة بالهم الإنساني والعربي، لماذا هذا الخيار؟ في رواية “مملكة الفراشة”، يجد القارئ نفسه أمام وضعيات وتراجيديا إنسانية حدثت في الجزائر، لكن كل قارئ عربي يجد فيها نفسه. عندما تكتب عن الوطن وتبدي انشغالا بالقضايا التي تهمك، تجد أن كل ما تكتب عنه غير منفصل عن العالم العربي نظرا لتشابه الظروف السياسية والاجتماعية. من هذا المنطلق أراهن على القارئ العربي. طبعا يهمني القارئ الجزائري، لكن القارئ العربي يهمني أيضا. وأكتب ضمن هذه السياقات بحثا عن السياقات المشتركة. فرواية “مملكة الفراشة”، توحي بأنها تتحدث عن الإرهاب في الجزائر، لكن كل القارئ العربي في سوريا أو في اليمن وجد فيها نفسه، فالاشتغال على عناصر الموت والحياة في حالة الاضطرابات، تجعلك تمس ليس فقط القارئ الجزائري، بل الإنسانية برمتها. لكن في الوقت نفسه يجب على هذه التصورات، أن لا تشغلنا عما هو محلي. عندما يضع الكاتب نفسه داخل قضية أساسية وإنسانية، فإنه يحقق الرواج لنصه.هل بقي واسيني كاتبا يساريا؟ لم أعد أؤمن بالكاتب اليميني أو اليساري. أعتقد أن مسألة الخروج من ما هو إيديولوجي أمر مهم. أصبح الكاتب يدافع عن قيم إنسانية، بعضها موجود في الاشتراكية وبعضها الآخر في الرأسمالية، التي لها قيمها أيضا. لكن في المقابل ما زلت أؤمن أن العدالة الاجتماعية تمر إلى اليوم عبر فكر اشتراكي عادل، وليس عبر ممارسات بيروقراطية، مثلما حدث في السابق. لكن للأسف الاشتراكية حاصرتها البيروقراطية. وليس الإشتراكيون وحدهم من ينتج العدالة، فحتى الرأسمالية تنتج عدالتها. وأعتقد أن الروائي لما يضع نفسه داخل إطار إيديولوجي يخسر نصه، أما إذا وضع نفسه في الجانب الإنساني بمختلف تشعباته فإنه يكسب نصا كبيرا، ويمس ما هو أساي.متى لمست هذا التحول في مسارك الروائي؟ كنت دائما مناصرا للفكر الاشتراكي. أنا ابن فقير، أنحدر من مجتمع فقير. أرى أن المجتمع الأكثر عدالة هو المجتمع الاشتراكي، لأن الرأسمالية جشعة. وكنت أناصر هذه الأفكار سنوات قبل بداية الحرب الأهلية. بدأت حينها أدرك أن ما كان يحدث في الجزائر وعلى مستوى العالم العربي وعبر العالم، كان أكثر تعقيدا من السمة الإيديولوجية/ التي تضع بينك وبين الواقع حجابا/ يجعلك ترى إلا ما تريده. أدركت أنه عندما يخرج الإنسان من القوقعة الإيديولوجية، فإنه يوسع أفكاره من خلال قراءاته/ ومن خلال علاقاته بالآخر. هنا يصبح يرى العالم واسعا، فتتحسن علاقاته مع الآخرين. أظن أن الخروج من الإيديولوجي مهم كثيرا في مسار أي كاتب.كثيرا ما يتحدث الروائيون عن تأثيراتهم الأدبية، في حالة واسيني الأعرج من هم هؤلاء الذين تأثر بهم؟ تأثرت طبعا بالطاهر وطار، الذي يأتي بعد القراءات الكلاسيكية، التي حملتني إلى عوالم فلوبير وإيميل زولا، لكن الأعمال التي أثرت فيّ إلى حد كبير، هي تلك التي لها لمسة إنسانية، على غرار أعمال “نيكوس كازنتزاكيس”، صاحب “تقرير إلى غريكو”. وأخص بالذكر هذا الكتاب، لأنه مهم جدا في مساري الأدبي. وأعتقد أنني لن أكتب سيرتي الذاتية، إلا وفق هذه الطريق التي تركها “كازانتزاكيس” في كتابه، وإن عجزت عن ذلك، فلن أكتبها نظرا لكونه كتاب عميق يزخر بالفلسفة والتأمل، فأنا أرفض السيرة الذاتية التي تعتمد على مجرد سرد الأحداث. كما تأثرت بأعمال “فلاديمير نابوكوف” وبالأخص روايته الشهيرة “لوليتا”، وكذلك راية “اسم الوردة لأمبرتو إيكو، إضافة إلى النصوص الروائية اللاتينو أمريكية من ماركيز إلى أستورياس، لا أحب النصوص السطحية وأفضل الأعمال العميقة.وما هي الكتب التي تعيد قراءتها دائما؟هي رواية “دون كيشوت” دون تردد و”ألف ليلة وليلة” النصين الذين صنعا وجداني الأدبي.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات