38serv

+ -

يتساءل الكثير من المثقفين والباحثين، بنوع من التشاؤم، عن وضع بلدان العالم الثالث وهي تنتقل إلى العصر الرقمي، دون أن تقضي على الأمية المتفشية في صفوف مواطنيها، ناهيك عن الأمية الإلكترونية، أي القدرة على التعامل مع الكمبيوتر بمهارة وكفاءة، بل يذهب بعضهم إلى حد التأكيد على أن التكنولوجية الرقمية تعمق التفاوت في صفوف مواطني البلد الواحد، بين الذين يملكونها والمحرومين من اقتنائها، بل يعتقدون أنه يشمل، أيضا، التفاوت في القدرات على فهم الثقافة الرقمية بما تفيض به من منتجات إعلامية وتعليمية وترفيهية واستيعابها. ويعتقد أن حظ الأشخاص الذين عاشوا وترعرعوا في ظل الثقافة المكتوبة من استيعاب هذه الثقافة يكون أوفر، لكن للأخصائي في الأمراض العقلية والمحلل النفساني الفرنسي، سارج تيسرون، رأيا آخر أقل تشاؤما، إذ يؤكد أنه على الرغم من عدم وجود الاتصال المكتوب في الثقافة الشفهية، إلا أن ما تنتجه هذه الثقافة من الحَكي يأخذ اتجاها خطيا، أي يسرد بتسلسل من البداية إلى النهاية. فالحاكي الذي يسرد الحكايات والأساطير يفعل ذلك بالاعتماد على الصور، إذ ينتقل من صورة إلى أخرى إلى غاية نهاية الحكاية، وإذا تطلب الأمر منه إعادة سردها فيحكيها بطريقة مختلفة تكاد تكون مغايرة، بهذا القدر أو ذاك، للحكاية الأولى. لذا يعتقد هذا الطبيب أنه بإمكان الثقافات الإفريقية الانتقال، بسرعة ويسر، من الثقافة الشفهية إلى الثقافة الرقمية، لأنه يؤمن بوجود شيء من الثقافة الشفهية في الثقافة الرقمية. ولو سايرنا “تيسرون” فيما ذهب إليه، فيمكن القول إن قراءتنا للرواية المطبوعة لا تتغير مهما عدنا إلى قراءتها أكثر من مرة، فستظل مقدمتها هي ذاتها وتبقى خاتمتها على ما هي عليه، وهذا خلافا لمنتج الثقافة الرقمية الذي يتشكل محتواه في كل قراءة، حيث يتبدل مضمونه ويتغير كلما أعاد “القارئ” قراءته، ذلك أن كتابة النص وصياغته بلغة متعددة الوسائط لا يتم بالطريقة الخطية والنمطية التي تحدثنا عنها أعلاه. وقد أخذ الإنتاج السمعي-البصري هذا المنحى، حسب الطبيب ذاته، حيث شرع الساهرون على إنتاج المسلسلات التلفزيونية وإخراجها في الاستعانة باقتراحات المشاهدين لوضع تكملة لحلقات مسلسلاتهم، وبهذا يكون للمتلقي رأي في صياغة تطورات المسلسلات وخواتمها، بل إن بعض كتابها أصبحوا يستلهمون تكملة حلقاتها بما يرسل لهم من تغريدات من موقع شبكة “تويتر”، ومن النقاش الذي تثيره الحلقات الأولى من مسلسلاتهم في بقية مواقع الشبكات الاجتماعية. أعتقد أن ما تقدم به الطبيب “تيسرون” بحاجة إلى مناقشة، ذلك لأن الباحث في علوم الإعلام والاتصال “لوسيان لوسيف” رأى أن ما أصبح يعرف بالعالم الافتراضي الذي يختلف عن العالمين الواقعي والخيالي، ظهر في بدايته الأولى في الأدب بشقيه الشفهي والمكتوب، فأبطال الروايات ليسوا كلهم من وحي الخيال، وليسوا كلهم كائنات واقعية يمكن أن نلتقي بها بمجرد الانتهاء من قراءة رواية ما، إنهم كائنات افتراضية.لكن أعتقد أن المشكل العويص الذي يواجه أبناء الثقافة الشفهية في انتقالهم إلى الثقافة الرقمية لا يكمن في إدراك البعد الافتراضي، بل في التعامل مع الصورة التي تملأ الشاشات المختلفة. فالكثير منهم، وربما حتى من الذين نالوا حظهم من الثقافة المكتوبة، مازالوا يعتقدون أن الصورة ليست سوى وثيقة إثبات وجود ما يظهر فيها، أي أنها دليل على وجوده. لذا نجدهم يتعاطون معها كواقع ملموس ويقيمونها وفق الثنائية التي شرحها الطبيب المذكور: صحيحة وخاطئة، أي أن ما تتضمنه حقيقي وله وجود فعلي في الواقع أو عكس ذلك. فالثقافة الرقمية قضت على هذه الثنائية، إذ أذابت الاختلاف بين الصورة ونسختها لتصبح شيئا واحدا، ولم تعد نسخة من الواقع بقدر ما هي وجهة نظر فيه قبل أن تتعرض لأي تعديل أو تغيير أو حذف وإضافة، لذا لم تعد تملك قيمة مرجعية أو إحالة للواقع. تأسيسا على هذا رأى الطبيب ذاته أن الصورة أصبحت تُقيّم بالنظر إلى مدى صوابها وليس واقعيتها. هكذا وجدت بعض المؤسسات الإعلامية صعوبة إضافية في التعامل مع الصورة. هل تصدق كل الصور التي تُرسل لها فتبثها أو تنشرها؟ وكيف تتأكد من مصداقيتها؟ أما أغلبية الجمهور فمازال يتعامل مع الصورة الرقمية من منظور الثنائية المذكورة، ويعاني من صعوبة اكتشاف حجم التلاعب بها، خاصة إذا استخدمت دون وضعها في السياق الذي أنتجت فيه. فمعنى الصورة أو أي رسالة إعلامية يتضح أكثر من خلال سياقه.لذا نحن لسنا بحاجة إلى محو الأمية الإلكترونية فقط، بل مطالبون، أيضا، بامتلاك أدوات معرفية للمساهمة في الثقافة الرقمية وتسخيرها لخدمة ثقافتنا.كلام

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات