عندما شاهدت لأول مرة الفيلم الوثائقي “العودة إلى مونلوك”.. شعرت بدمعة غصت بين جفوني. قلت في نفسي: ذاكرة العذاب قاسية.. وهي قاسية لأنها لا تنسى؟! ما قام به محمد الزاوي الصحفي والمخرج السينمائي عمل جبار، حفر في ذاكرة جيل كامل من التضحيات، لاستخراج المعدن الأصيل، ليس من ذاكرة المجاهد مصطفى بودينة، وإنما من ذاكرة جيل طويلا ما تدرب على النسيان، لكن ذاكرة العذاب لا تنسى.. في عمله الآخر حول المرحوم الطاهر وطار، ظل محمد الزاوي وفيا لتقنيته، وهي التقاط ما هو جوهري، روى حياة طويلة ومعقدة في دقائق سينمائية، لكنها دقائق لخّصت جوهر ما عاش من أجله ذلك الروائي الكبير الذي طبع عصرا كاملا بإبداعه ورؤاه وسجالاته ومناكفاته، فكان بحق واجهة عصر يعرض على صفحاتها ما يمور بداخله، ما يجعل مهمة كاتب الوثيقة صعبة إن لم تكن مستحيلة. ومع ذلك قارع محمد الزاوي كل الظروف القاهرة، بإمكاناته الفردية والقليلة، وبطاقة فكرية وجسدية لا تلين للمصاعب، وها قد حقق المعجزة التي لم تستطع الانتباه إليها كل الإمكانات المتوفرة لهذه الدولة الكسولة على الاستثمار فيما يبقى للتاريخ، قصدي الجهة المضيئة من التاريخ. من جهتي، لا أمدح ولا أثمّن ما قام به محمد الزاوي، وإن كان يستحق أكثر من المديح والثناء، وإنما أنبه إلى أن الإمكانات الكبيرة ليست هي التي تصنع النموذج، وإنما الإنسان الذي يقف وراءها. لقد كتب وصور وركب وقام بكل ما تحتاج له تقنية السينما وحده، بإمكانات مادية متواضعة، وظروف عمل شاقة، وكان مساعد المخرج الوحيد ذو الكفاءة العالية، هو الإصرار على تقديم عمل حول الذاكرة الجزائرية بمقاييس عالمية، وقد نجح.نجح محمد الزاوي في نيل انتباه وتكريم العديد من التظاهرات العالمية، وتم تثمين عمله بالتكريم والتمييز في محافل لم تدخلها الجزائر من قبل، وذكّر شعوب العالم بالطريق الشاق الذي شقته الجزائر إلى استقلالها والذي لايزال مستمرا بمشاقه ومصاعبه التي لم تنته بعد. ومع ذلك، يجد هذا الرجل من يقف في طريقه للمشاركة في مهرجانات بلده. للتذكير فقط، نال منذ سنتين جائزة في الأيام السينمائية الرابعة في الجزائر، ولم يصله مبلغ الجائزة حتى اليوم (لعل أحدهم حوله إلى حسابه الخاص!؟). ربما يتقبل الله صلاة أهل زنينة، القرية التي ولد فيها، وهم يدعون أن يبرمج فيلم ابنهم الوفي في مهرجان السينما بوهران، وربما ينجح الشاعر إبراهيم صديقي في إقناع لجنة المهرجان ببرمجة هذا الفيلم، على الأقل وفاء للطاهر وطار الذي وهب مثله حياته لرفع هامة الجزائر بين الأمم، ولكن.. ظاهرة محمد الزاوي ليست فريدة من نوعها، هناك المئات من الجزائريات والجزائريين الذين يشقون طريقهم في كبد الصخر من أجل هذا البلد، ومع ذلك لا ينتبه لهم هذا البلد ولا يثمّن أعمالهم ولا يراعي مواهبهم، بل يخاصمهم ويصنع لهم أعداء داخل إدارته العجوز المتكلسة المفاصل، فقط من أجل دفن جهودهم واجتهاداتهم، لأن هذا العصر يحكمه الكسالى والانتهازيون والمنتفعون من رداءته وسخفه. هناك طريق واحد إلى المستقبل، هو تثمين أعمال وإبداع المتميزين، وليقل لي من يشاء أنت تحلم.. نعم سأبقى أحلم حتى وأنا أعرف أن العدو الوحيد لهذا النظام هو النجاح!..
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات