38serv

+ -

 تتداخل الكثير من المفاهيم، مثل القانون والأخلاق والأخلاقيات، في الحديث عن تنظيم مهنة الصحافة. وتستعمل، في بعض الأحيان، كمرادفات لتحمل معنى واحدا، بينما الدرس القانوني والممارسة المهنية تكشفان، بشكل واضح، الفرق بينها. فأبسط تعريف للقانون متفق عليه هو مجمل القواعد الرسمية المنظمة للعلاقات بين البشر، وهي قواعد زجرية، فدون أحكام ردعية لا يُعّد القانون قانونا. ويُفهم القانون، على مستوى آخر، أنه أكثر من صيغة إجرائية لتنظيم العلاقات المذكورة، لأنه يشكل رهانا اقتصاديا وسياسيا وثقافيا يطرح على الصعيد الوطني والدولي. لذا نلاحظ تدرج مسميات بعض المواد القانونية التي تدرس في الجامعات من “الحريات العامة” إلى “الحقوق الأساسية” إلى “حقوق الإنسان”. أما الأخلاق، فهي مجمل المبادئ للحكم على سلوك ما، وقواعد تحدد الشر والخير والواجبات. وقد خاض الفلاسفة في هذا الموضوع طويلا وانقسموا إلى مذاهب مختلفة لا يسمح المقام بشرحها. والسؤال الذي يثار هو التالي: هل يمكن للقانون أن يتعارض مع الأخلاق؟ نعم، يجيب المختصون على هذا السؤال ويقدمون الكثير من الأمثلة في هذا المجال، مثل تعارض الأخلاق الكاثوليكية مع القانون المشرع للتغيير في مفهوم الزواج في المجتمعات الغربية أو مع القانون الذي يبيح الإجهاض. وماذا عن الأخلاقيات؟إن الأخلاقيات مجموعة من التوصيات الأدبية والاعتبارية ومدونة سلوكية يتبعها المحترفون في مختلف المهن، ويستدلون بها في نشاطهم لأنها توجههم نحو ما هو أفضل للتصرف في مواقف وأوضاع معينة. أي أنها اختيار طوعي لا يمكن أن يفرض بالقوة، لذا تترك للمهنيين المعنيين، مثل الصحفيين، أنفسهم وليس غيرهم لصياغة المبادئ المحددة لسلوكهم المهني. فاللوائح والمدونات الأخلاقية لا تملك طابعا إلزاميا، وتتمتع بسلطة معنوية وأدبية، وترتبط بالتزام المهنيين تجاه الأفراد أو المجموعة البشرية التي ينتمون إليها باحترام جملة من القيم والأعراف التي ترسخ في أوساط المهنة بوعي مهنييها ومشاركتهم الفاعلة. والأخلاقيات ليست تنزيلا آليا للأخلاق في الواقع العملي وإن كان البعض يسميها الأخلاق الاجتماعية. وبصرف النظر عن هذا المسمى الذي نراه يجانب الصواب، يطرح السؤال التالي: هل يمكن للأخلاقيات أن تتعارض مع الأخلاق؟ بالطبع، يقول المختصون مستشهدين بما أصبح يعرف بالموت الرحيم في مجال الطب. فالأخلاق تحرم قتل المريض بينما تبيحه الأخلاقيات التي أدخلها الأطباء في ممارسة الطب المعاصر، إذا استحال إنقاذه وتخليصه من عذابه، ومات سريريا. وكذلك الأمر بالنسبة لمهنة الصحافة، فأخلاقيات العمل تفرض على المصور الصحفي والتلفزيوني إنجاز مهمته على أكمل وجه، وفي بعض الأحيان على حساب إنقاذ ضحايا حريق أو حوادث سير في الطرقات أو طوفان. والنقاش مازال مفتوحا بين الصحفيين حول التعارض بين الأخلاق والأخلاقيات إذا تعلق الأمر باستحالة حصول الصحفي على المعلومات المطلوبة دون أن ينتحل مهنة غير مهنته أو شخصية الغير. يمكن الإشارة إلى أن مواثيق الأخلاقيات مثل القوانين تخضع للمراجعة والتعديل والإثراء باستمرار، نتيجة التطورات الحاصلة في المهنة ولتعقد وتشابك العلاقات بين البشر والمؤسسات، وللتطور التكنولوجي. ربما يتبادر إلى ذهن بعض القراء الكرام أن تنظيم مهنة الصحافة لا يحتاج إلى قوانين، خوفا من تقييد حرية الصحافة، بل يتطلب مدونات أخلاقية فقط. وهذا ما يعتقده الصحفيون في الدول اللاتينية، وفرنسا تحديدا، ويطالبون به كلما عرض مشروع قانون يتعلق بالإعلام والاتصال على البرلمان. ويمكن أن نساير هذا الاعتقاد لو تحقق الإجماع على أن الصحافة مهنة حساسة ولا يجب أن يستفرد بها أي طرف. فلا للسلطات التنفيذية التي تتداول على الحكم في النظام الديمقراطي، حرية التصرف فيها لوحدها، ولا للصحفيين الحق في جعلها محميتهم دون غيرهم. إن الصحافة تهم المجتمع بكل مكوناته، لذا يجب أن يكون لممثليه الكلمة في نشاطها. وهذا ما عملت به الكثير من الدول التي أنشأت مجالس الصحافة وأشركت مختلف هيئات المجتمع المدني في عضويتها وأصبحت تفصل في نزاعاتها. لذا يمكن التساؤل هل يمكن أن نجسد حق الأشخاص في التصويب والرد على ما تنشره وسائل الإعلام وأساء إليهم بالاعتماد على مواثيق أخلاقيات المهنة فقط؟ لقد أثبتت التجربة الجزائرية، بشكل قاطع، أن الكثير من هذه الوسائل لا تمنح الشاكي هذا الحق الذي أكدت عليه مختلف قوانين الإعلام منذ الاستقلال، والأدهى أن بعضها يشترط عليه أن يدفع مقابلا ماليا لنشره كإشهار!، فيغتاظ من هذا السلوك، وينشر رده في وسيلة إعلامية منافسة بمقابل مالي أو دونه، فتشب الملاسنة بين الوسيلتين الإعلاميتين. لذا يصبح التساؤل مشروعا عن سبب اجترار الحديث عن الأخلاق والأخلاقيات، في ظل الإصرار على تغيبب القانون أو عدم تطبيقه.     www.nlayadi.com

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات