قال ذلك المواطن العربي الذي يعيش مخفيا تحت الأنقاض، أنقاض آخر غارة جوية، قال: “الكثير من الرفاق غادروا البلاد ولم أغادر، نكاية في الأعداء ونكاية في نفسي. غادروا وتحصلوا على مناصب عالية وعلى جوائز كثيرة وأصبحوا يصادقون كل رؤساء وملوك الدنيا، إلا أنا والقليل الآخر من الأصدقاء. نكاية! ولكن: أنا حي وكل شراييني تنبض وهم يعانون من الحنين ومن العزلة. أنهكتهم الهجرة إلى الشمال. هل قرأوا رواية الطيب صالح: “موسم الهجرة إلى الشمال” التي صدرت في الستينيات؟ لو قرأوها لما حشروا أنفسهم في هذا المنفى الذهبي حيث يحتقرهم الناس. كتب لي أحدهم وقال إنه يعاني من العنصرية. استغربت ذلك لأنه كان أشقر الشعر، أبيض البشرة وأزرق العيون. رد علي: “اللهجة يا أحمد.. اللهجةǃ لهجتي سيئة للغاية”. وآخر كتب لي قائلا: “قتلني المنفى.. المنفى يقتل ولم أكن أعلم ذلك”. قلت: “لا يا عمر: قتلتك الردة وقد أصبحت زعيما معارضا، اقرأ عن تحركاتك ونشاطاتك في الـ”WASHINGTON POST” عجيب!”.يغض (هذا المواطن العربي المخصي تحت ركام من الإسمنت) الطرف عن الأشياء الآتية أسماؤها: التشطيب بجرة قلم حبري على الخيل وحدورة الخيل (كان يرعى الخيل في طفولته) في المراعي المضببة بلون الخزامي الذي يحاصر العدائين وهم يجرون وراء الأرقام القياسية ويريدون تحطيم سرعة الضوء. نوع من الدروشة اللطيفة أيام الإعصار وأيام القصف الأمريكي على مدينتنا، بطائرات الـF2 ولا نملك شيئا والمقارنة تشويش! ثم الأخبار (مرة أخرى من المذياع المخشخش) وأوراق الأشجار والجليد على أرصفة الذاكرة عندما كان هذا المواطن العربي يدير معهد البحوث النووية في إحدى العواصم العربية قبل أن تحطم عن أكملها، حيث أصبح الآن يعيش في سرية كاملة وفي عزلة شديدة، يترقب حافلات الشوف التي توصله إلى زوجته وإلى أطفاله مرة واحدة كل سنة. يترقب كذلك قطارات التاريخ المشحونة بالكراهية، أصبح يكره كل شيء، أصبح يكره حتى نفسه، يفرح، يرقص، كلما سمع في المذياع خبر عملية إرهابية في أي مكان من العالم. فرح عندما علم أن أحد المواطنين الكوريين طعن بخنجر كبير السفير الأمريكي في سيول. فرح عندما سمع خبر عملية إرهابية في بماكو (مالي) وقد راح ضحيتها عدد من الأجانب. يفرح كل ما حدثت عملية إرهابية في مصر (يكره السيسي) أو العراق (يكره المالكي والقزم الذي عوضه) أو ليبيا (يكره كل هؤلاء الزعماء الإقطاعيين وكل رؤساء القبائل وكل ضباط المليشيات) أو تونس (يكره القائد السبسي) أو.. أو..قاطرات التاريخ يترقبها من خلال قراءة الجرائد أو عند الاستماع إلى مذياعه. قرأ بيتا لأدونيس: “هناك الحضور وهناك الغياب، فنحن الغياب” علق، فقال: “لا! لا! حتى الغياب فقدناه، فنحن العدم، فنحن اللاوجود، اللاشيء، بقينا أطلالا ودموعا وقيئا ودما وأطفالنا يعيشون في مخيمات اللاجئين ونساؤنا يمارسن الرذيلة في الأزقة الضيقة في كل العواصم العربية.قاطرات التاريخ! قال: “قوم لوط ما قبل التاريخ والآن قوم بوش ما بعد التاريخ. بوش I (هدام العراق) وبوش II (هدام العراق كذلك) وبوش III (المترشح للانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة المقبلة!). لذا كان (هذا المواطن العربي) يملك عدة رشاشات (رشاشات الحتمية كما يسميها) التي يعرف تشحيمها وتركيبها وفكها واستعمالها (يقوم بعملية إرهابية مرة في الأسبوع). وليس هذا من الوهم ولا من السراب ولا من البخار النازف من بخار الماء الذي يتصاعد فوق جليد الأقدام عندما يلتقي برفاقه خفية في بعض الحانات المجهولة العنوان، ولا يعرف بالتدقيق ما هو الفصل الذي يعيش فيه: قيض أم صقيع. مائدة الفطور (هذا الصباح) قد كللتها الجرائد الناطقة بشتى اللغات والتي تخترق حدود التفكير الخام واللياقة الإنسانية والكلمات الصباحية، يتمتمها لنفسه يقول: “كل هذه التصرفات سب في الثوار أعلم ذلك ولكن..”.يتبع
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات