38serv

+ -

 عندما تصاب الأحزاب بالاكتئاب، فإن هذا يدل على أن عملية تحول مؤلمة باتت حتمية، وأن قضية التجديد أصبحت أكثر من ضرورية، من أجل صناعة التزامن مع التحولات العميقة التي يشهدها الواقع الفعلي محليا ودوليا، لأن اكتئاب الأحزاب ينذر بموت السياسة، وموت السياسة يستلزم وجود فراغ يستقطب الانتهازيين من مختلف الأطياف والألوان ذات العلاقة بمصالح مالية أو إيديولوجية. وإن تشخيصا استراتيجيا للوضع الذي تعيشه الأحزاب السياسية، يؤكد أنها وسبب اعتمادها مصفوفات تفكير تقليدية سائدة، عجزت عن إدراك طبيعة وآثار الانفجار المعرفي من حولها، وكذا التفاعلات الاقتصادية والسياسية المعقدة الناتجة عن تلك الثورة المعرفية، وما خلفته من آثار على مستوى الواقع الدولي، ولذات القصور أساءت الأحزاب ومنذ عقود تقدير عامل الوقت في التعامل مع معطيات التغير الحاصل، ما جعلها في غفلة عن التحول في طبيعة السلطة النوعية القائمة على المعرفة، حتى كادت تفارق السلطة التي ظلت تعتقد بمعانٍ تقليدية هي نتاج عهد مضى.  لقد كانت الأحزاب قديما تتمركز حول الإيديولوجيات والرصيد التاريخي وقدرتها على إنتاج النخب السياسية وصنع السياسات العامة، ولكن ومع الثورة المعرفية الكبرى التي يعيشها العالم، تراجع دور إيديولوجية المعرفة المنخفضة، وبات تفعيل الرصيد التاريخي في التعبئة مسألة صعبة باعتبارها إرثا مشتركا. أما صنع السياسات العامة، فإنه أصبح يتطلب أنواعا من الخبرات والمعارف الجديدة التي عجزت الأحزاب عن حيازتها وامتلاكها بسبب الفجوة المعرفية الكبيرة التي تفصل بيننا وبين العالم الأول، ليس فيما يخص الأحزاب والقوى السياسية فقط، ولكن حتى على مستوى مناهجنا وبرامجنا التعليمية، في وقت تشهد السلطة تحولا متسارعا نحو المعرفة التي باتت تلعب دورا أساسيا في مجال الاقتصاد والسياسة. فبسبب ثورة المعرفة والاتصالات والمعلومات والاستثمار في رأس المال الفكري وما حققه من قيم مضافة وأصول غير ملموسة وأنماط لخلق الثروة، تفككت شركات عملاقة واندثرت واندمجت أخرى وتكتلت قوى، وباتت المعرفة عاملا حيويا في تكوين السلطة طالما النظام المتسارع لخلق الثروة التي يقوم عليها صنع السياسات العامة يعتمد باطراد على تبادل البيانات والمعلومات والمعرفة، إلى الحد الذي أقر فيه الخبراء بأن الصراع القادم هو صراع سيدور حول المعرفة وتوزيعها وطرق الوصول إليها، والتي مسرحها عقول البشر، حيث يبني الرياضيون تراكيب ممتدة أكثر فأكثر، ويبني اختصاصيو الذكاء الاصطناعي ومهندسو المعرفة مخططات مذهلة من الاستدلالات والمعلومات المعارف التي تستغلها مراكز التفكير وتضعها في منظومة مرنة من الأفكار المبتكرة تتقدم بها إلى صانع القرار كي يتخذ قراره بناء على ما تتضمنه من معرفة، الأمر الذي يتطلب من الأحزاب أن تجعل نواتها الصلبة رأس المال المعرفي بدل المادي في مجالات الاقتصاد والسياسة والتعليم والإعلام والقانون والثقافة والصحة الخ، حتى تتفوق على التكنوقراط التقليديين الذين عادة ما يتحولون إلى بيروقراطيات مغلقة معطلة أكثر منها فاعلة، أي أن يكون الحزب المعرفي القلب النابض للحزب السياسي الكبير، لأن المعرفة وحدها القادرة على قياس أدق الذبذبات التي يعيشها الشعب فيما يخص احتياجاته وتطلعاته ومتطلباته في مختلف المجالات وفي عصر بات الاجتماعي فيه يطغى على السياسي بقوة، وبات فيه المجتمع المدني لدى القوى الدولية يسبق في سرعة تحركه وإيقاع نشاطه المؤسسات البيروقراطية للحكومات، ومن ثم واكب تلك المورفولوجيا الاجتماعية وساير التغيرات العميقة الجارية على مستوى الاجتماعي والثقافي والسياسي والجيوسياسي. أما الأحزاب عندنا، فإنها تعيش حالة انعدام تزامن حقيقية تتطلب تغيير علاقتها مع الزمن الذي لم يعد دائريا واستغراقيا ثقيلا، وأن تقطع علاقتها أيضا مع المعرفة البالية وأدوات التفكير العتيقة، وتغير خطابها، وتصنع خطابا جديدا يتناسب مع معطيات الواقع الفعلي والدولي، ومتطلبات الشعب، رافعة كل التحديات مهما كانت صعبة ومعقدة، وأن يكون النضال فيها نضالا يقوم على العطاء النوعي حتى لا يصبح النضال بالمفهوم التقليدي عبئا على الحزب أكثر منه إضافة إليه. وبما أن الأحزاب ومن خلال ما تصنعه من نخب سياسية من المفترض أن تكون في خلفية صناعة القرار، فإن روافد صناعة القرار اليوم تقوم على حزم معلومات وبيانات هي مخرجات لرأس مال فكري ومعرفي، الأمر الذي يتطلب منها إجراء تعديلات جذرية وعميقة على هياكلها الخاصة بالتدريب والتأهيل والاستقطاب، بل من المفروض أن يكون لكل حزب مراكز بحوث وتفكير وكذا مراكز للتدريب والتأهيل، ودوائر خاصة بجذب الكفاءات وذوي الخبرة غير التقليدية.     وفي ظل هذه المعطيات، يبدو جليا أن علاج الاكتئاب كان يحتاج إلى صدمة والصدمة قد تحققت بفعل خلو الحكومات من الأحزاب مهما كانت الخلفية التي تقف وراء غيابها عن صنع القرار وإدارة القطاعات الإستراتيجية والهامة، وقد حان الأوان لمواجهة التحدي.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات