كثيرة هي الأحكام والنّصوص الّتي يجعلها بعض الكسالى والمحبطين حجّة يقيّدون بها عقولهم ونفوسهم ليبرّروا سلبيتهم بنصوص تعود عليهم لا لهم، وهي فلسفة الفشل والمعصية كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي: [إنّ لكلّ معصية فلسفة] كقولهم الله غالب، قدّر الله، كاتبة.. إذ لا يخلو لسان من تكرارها إلى درجة تتصوّر فيها أنّك أمام جثّة مكبّلة بسلاسل كتب عليها حقّ يراد به باطل، لا حول ولا قوّة إلّا بالله (الله غالب) أو كأنّك أمام عصفور جريح ينتظر طائرًا جارحًا أو أسدًا ضاريًا يملك إرادته ومصيره.إن حال الكثير منّا كحال هذا العصفور، ولكن بواقع مختلف، واقع يظهر فيه الفاشل السّلبي أنّه يتمتّع بالصحّة والشّباب والقوّة وفوق ذلك بالعقل الّذي كرّم به وفضّل على جميع المخلوقات ولكنّه للأسف أخلد للعجز والكسل مبررًا ذلك بحقّ يراد به باطل (الله غالب).إنّ عقيدتنا مبنية على أنّ الله غالب على أمره وأنّه لا رادّ لقضائه وأنّه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولكن الصّحيح أيضًا أنّ الله عزّ وجلّ خلق الإنسان وجعله سيّدًا في هذا الكون وخليفته في أرضه وسخّر له كلّ شيء ذلولًا مطيعًا، والنّصوص في هذا لا تكاد تحصى، ثمّ أمرنا بعد ذلك أن نمشي في مناكب الأرض غوصًا في البحر وتحليقًا في السّماء أخذين بزمام المبادرة مستعينين على ذلك بالوسائل المادية المتاحة والعقلية المكتسبة (العلم والمعرفة) وهي بالمناسبة سنن كونية لا تحابي أحدًا على أحد إذ لا جنس لها ولا لون ولا عقيدة، بل المعتمد فيها من جَدّ وَجَدَ ومَن زرع حصد.والقرآن الكريم يصوّر لنا هذين النّموذجين بأسلوب بياني بديع، يقول سبحانه وتعالى: {وَضَرَبَ ٱللهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [75-76].وقد استفاد من هذه الآية أحد طلبة مالك بن نبي (د. عبد الصّبور شاهين) عنوانًا لرسالته، الإنسان كلا وعدلا، سألتُ مرّة شابًا عن عمله؟ فردّ عليّ عاطل، فقلت: لم؟ فقال: مكتوب ربّي، فابتسمتُ وقلتُ: أليس من المكتوب أيضًا أن تطرق الأبواب وتتّخذ الأسباب مستعينًا بالله الّذي قال: {وَمَنْ يَتَوَكَّل عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، ثمّ إنّنا كمسلمين مطالبون أن نتّخذ الأسباب عملًا بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه إذ قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ”لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا”.والواقع أنّ تفكير هذا الشّاب ينطبق على شريحة واسعة من الشّباب الّذين وجب علينا أن نأخذ بأيديهم إلى الأمل بدل اليأس، وأن نفرّ بهم من قدر الله إلى قدر الله، واضعين في الحسبان درّة عمر رضي الله عنه وأرضاه في الحزم والعزم.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات