سيرة جنسين، منظوران متعاكسان وهزيمة واحدة، هو ما يلخّص جمالية نصّين في السيرة الذاتية الجزائرية. السيرة الأدبية والسياسية لاثنين من أهمّ المبدعين في اللغة الفرنسة من الجيل الثاني. فقد ظهر النصّان مطلع الألفية بعنوانين متشابهين: “الكاتب، طفولة جزائرية” 2001 للروائي “ياسمينة خضرا”، (محمد مولسهول) ونص “تنشئة جزائرية” (2005) للكاتبة والناشطة الحقوقية “وسيلة تامزالي”. تقع البيوغرافيا كجنس أدبي بين فن الرواية والشّهادة التاريخية وتتأرجح بينها حسب المقصد العميق لكاتبها، فهيّ فنٌّ يتراوح بين الواقعة ورمزيتها، وبين الحدث وأفق الخيالي، وهنا تكمن كل جماليته.ينتمي كلاّ من وسيلة تامزالي وياسمينة خضرا إلى جيل واحدٍ، جيل الجزائر المستقلة، أو جيل “السنة الأولى جزائر” كما سُمّي. ففي السيرتين نجد استفاضة في وصف البداية العظيمة لسنة 1962، بداية شعب وأمة وإنسان. تتذكّر تامزالي تلك السنة وهي في سن العشرين، سن الجامعة، بقولها: “خلف ذلك الزمن المتبدد، ذكرى لحظات من الانفعال الخالص، كنت فيها بمعية الشباب المحيطين بي، نعيد الصلة جسديّا بالزمن الأسطوري الذي شهد هبة شعب بأكمله. لقد منعتني تلك المغامرة الكبيرة من إطالة الوقوف أمام مشهد ضياع العالم الذي كنت أنتمي إليه.” (ص 51)، بينما يذكر “خضرا” في سيرته أنها سنة الاستقلال هي “سنة الرّحيل الكبير لطفلٍ صغير”، حيث سيزجّ به أبوه في “مدرسة أشبال الثورة” وهي مدرسة جمهورية تختصر كل مفهوم الدولة الجزائرية الفتية، مدرسة شبه عسكريّة اخترِعت أساسا لأبناء الشهداء والأيتام والمتشرّدين الذين خلّفتهم الحرب الكبيرة.النصّان لسانُ حالَ طبقتين اجتماعيّتين متصارعتين بشكل خفيّ، ومن عبقرية السيرة الذاتية أنها تعكس الانتماء الطبقي لصاحبها بشكل يصعب حجبه مهما حاول التصالح داخل دفّة الصراع. تنحدر تامزالي من البورجوازية الصغيرة التي استفادت من النظام الكولونيالي، بتعضيد مكانتها، لكن ظروف الحرب التحريرية سرعان ما قلبت كل الموازين وأعلنت بدءًا ومسارا مختلفا لكل تلك الطبقة.. موت أبيها مع بداية الحرب، انتقالها إلى العاصمة، الاستقلال، وانخراط الطالبة الشّابة، ثم المحامية والكاتبة السنيمائية في نضالات اليسار والثورة الاشتراكية، والدّفاع عن المرأة الذي ربطت حرّيتها بتحرير الطبقة الكادحة، كلّها مصائر طبقية كابدتها الكاتبة، وأرّخت لكل منظورها الطبقي بالتنكّر أساسا لوجود بورجوازية جزائرية والدفاع عن وفاءها اللامحدود لقيم الثورة. “شيئا فشيئا كنتُ أُعلي بنيان وعي شفّاف لما سيصبح لاحقا جزءا من مراكز حياتي، يتمثّل في الحالة التي أعيشها باعتباري امرأة جزائرية. كان عليّ كي أتحرر من ذلك القمع أن أحرر نفسي قبل كل شيء من حالة الانبهار بالمثل الثورية الكبيرة وبالأخوّة، غير أني كنت أبعد ما أكون عن القيام بذلك جملة واحدة. سوف تدوم الأمور إلى حد اليوم ولازالت” (ص 108). مقابل ذلك تُلقي بيوغرافيا ياسمينة خضرا الضوء على أصوله الطبقية بشكل مقلوب، ينحدر الكاتب الفرنكوفوني المتميّز من قبائل الصحراء العربية، التي يُعزى إليها قيم الفروسية والشّجاعة والشهامة وقرض الشّعر، لكن الطفل محمد مولسهول يستيقظ على واقع مفزع، وهو في طريقه إلى مدرسة أشبال الثورة في تلمسان، حيث سيتخلّص منه أبوه، ليتفرغ إلى حياة عبثية من تكرار زيجات فاشلة، ويرمي والدته وصغارها إلى قلب التشرّد في مدينة وهران المتوحّشة، يكبر الطفل على جرح الترك، والإهمال، يهرب إلى ليالي القراءات الطويلة، وفي آخر نفق العزلة والوَحشة يلوح له بصيص ضوء صغير، يبشّره بنبوّة الكتابة، لينذر بقية حياته لذلك الحلم. وبالموازاة، سيعيش حياة عسكرية صارمة، كضابط دبّابات محققا بذلك حلم أبيه. أن تكون كاتبا متنكرّا في اسم الزوجة وضابطا في مؤسسة عسكرية هي نفسها النظام السياسي الحاكم هي أكبر مفارقة إيديولوجية وشخصية يعيشها الإنسان. عاش خضرا/ مولسهول حياته الأولى باسمين وولائين: ولاءٌ لحلم الأب/ السلطة/ المؤسسة/النظام، وولاء للحرية/ الكاتب/ التمرّد/ المرأة. في حياته الثانية استقال من المؤسسة العسكرية لكي يتفرّغَ لحلمه الثاني في باريس. قبله بعشريتين كانت تامزالي هي الأخرى قد حزمت حقائبها إلى باريس تهيّئا للخيبة وسنوات الجمر الثانية.في أفريل الفارط، ترشّح مولسهول لمنصب رئيس الجمهورية ليفشل في جمع التوقيعات اللازمة للمرور إلى الحملة الانتخابية، ويدرك بعمق موقعه من النظام الذي خدمه طيلة حياته، ليعكف على تصريف المرارة وجهة سردية في رواية “ما تنتظره القردة”، أمّا تامزالي فقد بقيت على نضالها العلماني في الحركة النسوية كأحد أبرز وجوهها، وقد انضمت إلى المعارضة الجذرية للنظام الحاكم منذ الاستقلال كما انضم إليها خضرا متأخّرا. تجدر الإشارة إلى أن جيل الاستقلال، المخضرم سياسيا ولسانيا، وقد بلغ حدوده التاريخية مطلع الألفية، تفرّغ لكتابة المذكّرات والسير الذاتية حتى أصبحت ظاهرة أدبية. معظم هذه السيّر جاءت تشخيصا لأزمة جيلٍ وانسدادٍ تاريخيّ للدولة الفتية. البيوغرافيا في الحقيقة نصّ سياسي مهما حاولت التلفّع بجمالية الحياة الشخصية لكتّابها، بل إن ما تكشفه البيوغرافيات العظيمة من جوانب خفية للحياة السياسية لعصرها، لا يمكن لأي جنس أدبي آخر كشفه. لا تقاس عظمة السّير الذاتية بما تبوح به من مكنون الحياة الحميمية لكتّابها ولكنها تقاس بما تصمت عنه أيضا، فما لم يبح به الكاتب هو عادة ما أراد قوله ولعلّة ما لم يقله. هكذا تعمّد “خضرا” أن يسكت عن الكلام المُباح لسيرته عند حصوله على شهادة البكالوريا وانخراطه في المؤسسة العسكرية كضابطٍ سام، ثمّ استقالته منها وهجرته إلى باريس حيث سيبدأ حياته الثانية بكتابة السيرة مع واجب التحفّظ الذي احتفظ به من حياته الأولى، لقد بقي وفاء “خضرا” للأب/ السلطة سرّا لاشعوريا مُبهما وملتبسا، رغم كل الإساءات التي تلقّاها وكابدها من أبيه طفلا صغيرا ومن السّلطة السياسية كاتبا كبيرا. مقابل ذلك، واصلت تامزالي رحلة الحفر في طبقات ذاتها اللاشعورية لتقف على بوابةّ مُضاءة بوهج هائل بالكاد يلفحُ وجوهنا ويضيء دُروبها، في حفرياّت الذّاكرة السير-ذاتية نكتشف أن ذواتنا مؤسّسةً ومُبَنينة على واقعة لاواعية وهائلة هي دوما “موت الأب”. وقد تأسست السيرة الذاتية الجزائرية على هذه الواقعة الجذرية، سواء إنكارا كما نلمسه عند “خضرا” أو إقبالا وسؤالا كما نجدها في نص تامزالي التي تقول: “تبين لي الآن أنني أحاول المستحيل: استحضار أزمنة عديدة، الماضي أي حاضر الحدث، وما تبقّى منه اليوم في مأمن من التلف الذي يلحق بالذاكرة، والمستقبل، الذي تكتمل فيه الدورات، إن حدث يوما أن تحقق هذا الاكتمال.. حيث إن موت والدي كان ينتصب كلّما تقدّمت في بناء حديثي، بكيفية عرضية في البداية، ثمّ شغل الواجهة تدريجيا ليتحول إلى محور أساسي في حكايتي، تحولت إقامتي في إقليم الكتابة إلى رحلة تكوينية” (ص 263).
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات