فقدت الجزائر رجلا قلّ نظيره، وفقدت فيه القوى الحية مناضلا مقداما شريفا جريئا على قول كلمة الحق. مناضلا من طراز عالي وهب حياته، كما كان يقول دائما، لاستكمال رسالة الشهداء.أحمد لخضر بن سعيد، لم يكن رجلا فحلا فحسب، وإنما قيمة مضافة لكل نضالات وجهود الوطنيين الأحرار. كان دائما في الصف الأول حين يحتاجه الواجب الوطني. اختار منذ أن خرج من العمل العسكري في منتصف الثمانينيات، جهة المعارضة الإيجابية، جنّد الأسرة الثورية لمواجهة خيانة النظام في استرجاع وتسييد من كان يسميهم الخونة وأبناء الحركة، وكان بإحساسه العفوي يجد نفسه دائما في المواجهة القاسية مع من كان يسميهم الطابور الخامس.ومنذ تلك المرحلة المبكرة من نضاله، كان يعرف أن القوى القادرة على مواجهة الخيانة والتفريط في دم الشهداء هم أبناء الشهداء أنفسهم، فقام بما لم يقم به أحد غيره: قطع طرقات الجزائر شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، من أجل إقناعهم بالخيانة التي حدثت لرسالة الشهداء.. ولعل أول من أحس بخطورة الرجل هو رجل لا يقل خطورة عن استقلال وسيادة الشعب الجزائري، وهو الكاردينال العربي بلخير، الذي لم يترك سبيلا إلا طرقه من أجل أن لا يستكمل بن سعيد مشروعه.. غير أن رجالا كثر في البلاد، وخاصة المجاهدين الحقيقيين، ساندوا مشروعه ونجح في جمع كلمة أبناء الشهداء، رغم أن ما يفرّقهم حينها كان أكثر مما يجمعهم. كان أيضا رجل ثقة الكثير من المسؤولين السامين في الدولة، الذين احترموا جهوده ومواقفه، رغم وجوده الدائم في جهة المعارضة. ولعل رؤساء من نوع بوضياف وعلي كافي وحتى الرئيس بوتفليقة، في بداية عهدته، كانوا يثقون فيه ويكلّفوه بمهام إنسانية يؤديها على أتمّ وجه، ثم ينسحب من عروشهم. وبحكم علاقتي به، وإن كانت متأخرة كثيرا، عرفت أن روابطه بكبار المسؤولين كانت دائما تصب في المكاسب العامة، أما هو، فقد كان يقول دائما عبارته الشهيرة: “أنا لا أبحث عن مكسب ولا منصب.. أنا أريد الجزائر مستكملة استقلالها والشعب الجزائري مستكملا سيادته..”.كان رجلا قريبا من كل التيارات سواء الديمقراطية أو الإسلامية أو حتى رجال داخل السلطة، أجمع الجميع على أنه مناضلا وطنيا حرا، لا ينخرط في اتجاه واحد، بل يعمل ويدافع على ما يجمع بينهم. ولعل ملف تجريم الاستعمار الذي أخذ بمجامع قلبه، كان أحد الملفات النموذجية التي جمعت حوله كل التيارات والفئات الواعية بمخاطر النسيان وفقدان الذاكرة... لقد تم جرّه كثيرا أمام العدالة لتصريحاته الجريئة الكاشفة، وكنت مجرورا معه في بعضها، وكان كلما يخرج منتصرا يقول لي هذه لبنة في صرح الاستقلال. كان له هذا الوعي الفطري بالخير والحق. وحين جمعتنا الأقدار في السياسة فيما بعد، تعلمت منه أن الأفكار التي تبقى حبيسة الكتب، تحتاج لوقت طويل كي تجد طريقها بين الناس، وأن أفضل ما تفعله النخبة أن تستولي على العمل السياسي وتجسّد من خلاله أحلامها.. وكنت متفقا معه. لعل بعض الذين لا يعرفون الرجل عن قرب، يعتقدون أن هذا الرجل كان يمارس السياسة كغيره من متعاطيها، والحقيقة أنه لم يمارس السياسة يوما في حياته. كان دائما يقول صدقا عن نفسه، أنه يكفيه أن يكون مناضلا من أجل كل الجزائريين، وقد كان كذلك بدليل أن لا أحد من أي تيار كان ترك أحمد لخضر بن سعيد في قلبه شيء منه، اللهم إلا الخونة.. وذلك ما شكّل من الرجل قيمة مضافة.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات