في ملامح الوضع التي تترآى أمامنا هناك ما يدفع لقلق عميق. فالأزمة النفطية ستعري عيوب السلطة والنظام والخوف كل الخوف أنها ستعري البلاد كلها من بقايا الدولة فيها. نحن اليوم أمام وضع خطير بل خطير جدا. صمم سلطوي واضح ورفض لكل تغيير، ورفض حتى الاعتراف بوجود أزمة. عجز سياسي مؤسساتي، مصحوب بمؤشرات أزمة اقتصادية اجتماعية خانقة. الوضع خطير أيضا، لأن الساحة السياسية عاجزة ومعاقة تماما، عجز كان رغبة السلطة ثم صار اليوم عائقا كبيرا أمام أي تغيير. المجتمع هو الآخر أكثر عجزا من باقي الأطراف، وهناك مقابل هذا قوة متزايدة لطرفين، هما المصالح والخارج. من الناحية السياسية، المسار الذي أخذته مبادرة تنسيقية الانتقال الديمقراطي، دخله جدل قائم على شك سببه السلطة، والمسار الذي أخذته مبادرة جبهة القوى الاشتراكية، مسار طبعه شك سببه السلطة، وتأكدت مصاعب المسار وكل ذلك يزيد القلق عمقا.السلطة وامتداداتها أظهرت، خاصة فيما تضعه من شروط لقبول مبادرة القوى الاشتراكية، وفيما تلوكه عن أن البلاد لا تعيش أزمة سياسية، وأن المؤسسات شرعية، قلت السلطة أظهرت أن الوضع لم يدخل، وقد لا يمكنه أن يدخل مسار بناء توافق بقدر ما يدخل مزيدا من الانسداد ومزيدا من التيه. واضح أيضا أنه لن يكون هناك مسار سياسي، من أجل بناء توافق ما لم تكن السلطة طرفا فيه، أقصد كل السلطة، رئاسة وجيشا ومخابرات، ولكن السلطة لم تظهر إرادة للسير في ذلك الاتجاه، في غالب الظن، لأنها لا ترى ضرورة لذلك، وربما لأن هناك مصالح قوية تمنع قيام هذا المسار. قد يكون للسلطة “مشروعها”، لكنها لا تفصح عنه أو لا تستطيع الإفصاح! ولكن هناك إشكالية هامة، فالبلاد ضعفت فيها السلطة وخاصة مصداقيتها وشرعيتها، وهي تفتقد لقيادة تحظى بالمصداقية والشرعية وتتمتع بقدرة على اقتراح حلم جديد للجزائريين. والقيادة ليست فردا فقط، بل هي بالأساس رؤية، وهي إرادة منظمة واعية، متجدرة في مسار بدأ ذات نوفمبر، ولم يصل بعد إلى جُلّ مبتغاه، وهو المشروع الوطني. المشروع الوطني ليس إيديولوجيا، بل إطار وحلم وغاية، تتعدد التصورات فيه ولكنها لا تجافي المشروع ذاته. المشروع كان حلما بـ “إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية، ذات السيادة، ضمن إطار المبادئ الإسلامية”، لكن تجسيده مؤجل، أو في حاجة لثورة أخرى. إن هناك من يعمل اليوم على التخلي عن المشروع، بل ويجري الحديث عن أن الدولة الحديثة تبنيها برجوازية، تقوم على تراكم رأسمالي مصدره الأساسي والوحيد في غالب الأحيان، نهب المال العام، برجوازية تتحول الدولة عندها إلى مصلحة، بل وتصبح دولة القانون ضرورة لقيام تحكيم بين المصالح المتدافعة. وهو تصور لا مكان فيه للشعب، وهو سطو للسلطة والمال على الدولة. ذلك تصور، إن وجد، يستند لقراءة غربية أركائيكية، ولحالة لم تتكرر في تجارب كثيرة، ورأينا نتائجها في بعض بلدان أوروبا الشرقية وتكاليفها، لذلك فهو واهم لعدة أسباب لعل أهمها: أولا: سلطة المال من دون دولة مؤسسات وقانون، هي مجرد انتقال، من سلطة السلطة التي ظلت تتغطى بشرعية التاريخ، إلى سلطة تحتكر الثروة والسلطة معا. ثانيا: ليس هناك برجوازية، لأن ما هناك هو في حالات كثيرة، مستفيدون من الريع بطرق غير شرعية وغير اقتصادية وفاسدة ومن غير أي ذكاء رأسمالي، وذلك أنشأ طبقة ثرية، ولكنها رثة ثقافيا ومعرفيا، وهي لا تملك مشروعا، ولا رؤية سياسية، بل وهي تعادي الذكاء والكفاءة وتتحالف مع الرداءة. ثالثا: واضح أن “الانتقال البرجوازي!” لا يقوم على أي سند اجتماعي، أو حتى نخبوي منظم، وما هو موجود من أشكال تعبير عنه في أجهزة حكومية وحزبية سلطوية رديء جدا في تعبيره، مما جعل هذه الطبقة في حاجة دائمة للابتزاز وشراء الذمم عوض تدافع الأفكار والإقناع. إن إضعاف الدولة في مرحلة “التراكم الرأسمالي!”، (ما زلنا في الواقع في مرحلة الثراء الفاسد)، مقامرة خطيرة قد تكون تكاليفها باهضة جدا. فالدولة ستكون عاجزة عن مواجهة شبق السلطة والمصالح وستكون عاجزة على فرض القانون وعلى حفظ التوازنات الضرورية وحماية مصالح الأغلبية والاستقرار. التاريخ علّمنا أنه كلما اقترن احتكار السلطة باحتكار الثروة جاءت لحظة انكسار الأنظمة وانهيار الدول، ذلك حدث في تونس ومصر مثلا[email protected]
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات