ابن تيمية الشيخ الذي نصّبه الجهاديون العالميون مرجعا لـ”فقه الكراهية”، الذي تلتزم باتباعه اعتقادا وتنفيذا، الجماعات المسلحة العابرة للحدود، حدود الدول وحدود الله معا، وملهما للطقوس والممارسات البشعة المنشورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بات بحاجة إلى التفكيك، والمقصود بالتفكيك هنا، هو التفكيك المعرفي كمنهج علمي، وكمقاربة تتناول نظاما ونموذجا معرفيا، نشأ وتبلور قبل ثمانية قرون، حيث عصر الضعف والتخلف والانحطاط، وفي زمن الحروب وصراعات الفرق والطوائف والمذاهب، إلى أن بات المشهد الدموي اليوم يحتم علينا العودة إلى ذلك النظام ومقولاته كافة، سعيا وراء تفكيك تلك المرجعية التي أربكت بقصد أو عبر المغالطات، حتى التقسيم التقليدي المتوارث والمرفوض عن دار الإسلام ودار الحرب، وجعلت من دار الإسلام دارا للحرب، كما جعلت كاتبا مثل “جيفري سمبسون” يعنون كتابه الأخير “هل يقتل الإسلام نفسه؟ ومن ثم وجب على النخبة المفكرة والباحثين، في كل مجالات العلوم الإنسانية، السعي وراء تحديد مكمن الخطأ في ضبط المفاهيم الشرعية الخاصة بالجهاد والولاء والبراء والتكفير والتأصيل والتنزيل قراءة وتأصيلا.وابتداء، لا بد من التأكيد بأن ابن تيمية شخصية علمية اختلف حول آرائها من اختلف واتفق من اتفق، ولكن طالما بات الجهاديون يستندون إلى فتاويه فيما يرتكبونه من بشاعات، لا بد من العودة إلى أصل تلك الفتاوى، من خلال البحث والدراسة العلمية عبر الجامعات ومراكز البحوث ومؤتمرات الفقه، وحتى مراكز الدراسات الاستراتيجية والأمنية، طالما ليس في ديننا عصمة أو تقديس لأحد، وبما أنه قد تكاثر مناظروه ومخالفوه من علماء عصره في كل مكان، فابن تيمية رغم ما تضمنته بعض آرائه الفقهية من إشراقات، لا تمنع تفكيكا علميا ومعرفيا، يتيح قراءة جديدة لموروثه الفقهي، وتحليلا علميا لكافة مواقفه وفقا لما منحه العصر من أدوات ومنهجيات علمية جديدة، يهدف توظيفها التوصل إلى نتائج تتيح تصنيفها، ومن ثم الحكم عليها بعد وضعها في سياقها السياسي والاجتماعي والتاريخي. فقد ينسب أو يجتزئ أو يفسر بطريقة مغلوطة، وفي سياق مختلف لما جاء في فتاوى ابن تيمية وجميع تراثه الفقهي، وفي المقابل قد تكون فتوى أو تفسير أو تأويل أو رأي ابن تيمية في حد ذاته خطأ، يجب الوقوف عنده ورده، الأمر الذي يجعل من العودة إلى هذه المرجعية وتفكيكها بالمعنى العلمي ضرورة عاجلة، غايتها الوصول إلى نتائج علمية، يتم تداولها ونشرها في كافة الأوساط العلمية والثقافية لدى الجماعات الإسلامية بكل أشكالها، وتداولها عبر مواقع التواصل وكافة القنوات الممكنة، بالشكل الذي ينبّه الفئة من الشباب المعنية بهذه الرسالة، وكذا جيشها الاحتياطي القابل للتعبئة في كل مكان في العالم. لقد شدّد ابن تيمية على مقولات مثل “إن غير المؤمن تجب عداوته”، وتبنى مقولة “دار الإسلام ودار الكفر” للإمام أحمد ابن حنبل، وأكد على “ضرورة إهانة غير المسلم ومقدساته”، وصولا إلى “ضرورة فرض اعتناق الإسلام وتطبيق شرائعه على العالم”، كما حدد مفهوما للجهاد لا بد من مراجعته، حتى حرق الطيار الأردني “الكساسبة” رحمه الله، تعود إلى فتوى ابن تيمية، شيخ الجهاديين ومرجعيتهم الفقهية، حيث يتمسكون باجتهاداته، وكأنها النص المقدس، بعد مرور ثمانية قرون على وفاته، الأمر الذي يستلزم وقفة جادة مع تراثه الفقهي الوضعي.وإذا كان هناك من فضل للاحتجاجات العربية في مقابل الدمار وانهيار بُنى الدول، ومحاولات تشويه الإسلام، فإنه يتمثل في فضح القصور العلمي والمعرفي لدى الفقهاء والشيوخ، الذين لم يتمكنوا من استيعاب الكم الهائل من التعقيد في تفاعلات المجتمع الدولي، وكذا طبيعة المصالح التي تربط فواعل النظام الدولي بعضها ببعض، فراحت تضرب خبط عشواء بالفتاوى، لاجئة إلى ابن تيمية مرة، وإلى غيره مرات أخرى، الأمر الذي أسقط منها أهم مؤهلات الإفتاء، المتمثلة في توافر شرط فقه الواقع عندها، بعد أن توقفت خريطتها الإدراكية عند حدود قرون مضت، في حين يموج واقعنا بمعطيات ووقائع مختلفة تماما عما كان في غابر الأيام. كما أن ممارسات الجهاديين العالميين، تجد مرجعيتها في الفقه الذي يدرس في جامعاتنا العربية، وفي حلقات مساجدنا ويروّج له في معارض كتبنا، مما مكن الموروث الفقهي الوضعي من بناء لاهوت، حان وقت تقويضه بجرأة وشجاعة، ما دام قد خرج عن منطق الدين وجوهره. وفي ظل هذه المعطيات، وبهدف التوقف عن تنصيب ابن تيمية وغيره مرجعيات لعصر لا علاقة لهم به، ومن أجل الكف عن وضع الفقه في خانة النصوص المقدسة، لابد من التفكيك العلمي لهذه المرجعيات، فالفقه ما هو إلا انعكاس لطبيعة الصراعات التاريخية والاجتماعية والسياسية، التي نشبت بين الطوائف والفرق الدينية، حيث كانت كل فرقة تسعى إلى إنتاج الفقه الذي يناسبها، ثم تستدعي النصوص استظهارا بما يتوافق مع مصالحها ومواقفها، كما أن الفقه مرتبط بالمجتمعات التي تكون قد سادت فيها قضايا وظواهر معينة هي بنت ذلك الزمان، والفقه الذي يعالجها مرتبط بحدود المعرفة العلمية السائدة في ذلك التاريخ.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات