المغرب الكبير في حداد، ليس لأنه فقد قائدا سياسيا ممن ينحني لهم التاريخ تبجيلا لسيرتهم، أو لأنه فقد عالما فقيها من قيمة ابن خلدون أو ابن عربي أو ابن رشد، بل لأنه فقد سيدة اسمها فاطمة الزهراء ايمالاين، الشهيرة باسمها الأدبي آسية جبار. نعم، المغرب الكبير، وليس الجزائر وحدها (موطن مولدها) في حداد، لأنه فقد سيدة تجمعت فيها الكثير من معاني المقاومة من أجل الحياة، عنوانا لسيرة أجيال من نساء المغرب الكبير، شاء قدرهن أن يعشن تحديا مزدوجا، للتصالح مع شرط الحداثة بمعناها الكوني، دون الاصطدام مع الإرث القديم لثقافة بدوية فلاحية ذكورية. وعند ملتقى طرق هذا القدر الصعب، تسامت آسية جبار، عنوانا ليس للتحدي، بل عنوانا لمعنى الحياة لنساء مغاربيات شاء قدرهن أن يعشن ضمن اصطخاب تحولات مجتمعاتنا الفلاحية خلال القرن العشرين.بهذا المعنى، فإن سيدة الجزائر هذه ليست فقط اسما علما لألاء ضمن جغرافية الأدب العالمي، بل هي عنوان لمعنى أن يكون الإنسان امرأة (femmes/ women) في بلاد قليلا ما ترى إلى النساء في عمقهن الإنساني، ما يجعل وجودهن متوالية من المقاومة من أجل شرطهن كنساء حرائر لا سبايا. والسبي في الدماغ وفي الوعي، أفتك من السبي في أسواق النخاسة القديمة. لهذا السبب، فقد ظلت حياة آسية جبار سيرة ممتدة للمقاومة من أجل الحق في الرؤية لبنات جنسها ككائن حي عاقل، كإنسان. من هنا شاء قدرها أن تظل المثال ليس فقط لنساء الجزائر، بل لكل امرأة في بلاد العرب والمغارب. وكانت قوتها كامنة في أنها لم تعتل قط منبر الخطابة، لمزايدة إيديولوجية عابرة، بل اختارت لغة أخرى، هي لغة الكتابة والسينما كخطاب حضاري أبقى، من أجل قول كلمتها عالية في الناس. فانتصرت بذلك للإستراتيجي في الأمور، ولم تسجن ذاتها أبدا في التاكتيكي الزائل للإيديولوجيات.في مكان ما، لقد ظلت ابنة شرشال الأمازيغية، مسكونة بصوت التاريخ، ذاك الذي يعبر الأزمنة، كي يرسم صورة عن معنى الحضارة. وليس اعتباطا أنها درست التاريخ باكرا في فرنسا سنة 1956، وكانت أول طالبة مسلمة تلج إلى المدرسة العليا للبنات بزنقة سيفر التي تعود إلى القرن 18. بل وأن تدرس مادة التاريخ المعاصر بالمغرب العربي بكلية الآداب بالرباط سنة 1959، وأن يكون أستاذ أطروحتها حول ضريح للامنوبية بتونس، المستشرق الشهير لوي ماسينيون، قبل أن تنتقل للتدريس كأول امرأة في جامعة الجزائر العاصمة بعد استقلال بلادها سنة 1962.إن ما ظل يغريني حقيقة في قصة حياة آسية جبار، ليس فقط لغتها الأدبية الأسيانة، وطبيعة شخوصها الروائية، وفرنسيتها التي توازي فرنسية محمد خير الدين المغربي، وفرنسية كاتب ياسين الجزائري، الأمازيغيين الآخرين مثلها، بل انتباهها الذكي باكرا لقوة ثقافة الصورة، ما جعلها تقرر الولوج، بغير قليل من التحدي والجرأة، إلى إخراج أفلام سينمائية، تعتبر اليوم (رغم قلتها) من أرفع ما أبدعته السينما الجزائرية، لأنها أفلام مسنودة برؤية معرفية زاخرة بدرس التاريخ، عميقة في فهم المعنى السوسيولوجي لشرط الوجود الإنساني للمرأة والرجل، في مجموعات بشرية مثل مجموعتنا المغاربية. لقد أدركت أن للصورة أثرا في إعادة تشكيل وعينا العمومي اليوم، فحولتها إلى أداة معرفية ثقافية، تمرر من خلالها رسالتها الفكرية والمعرفية والإبداعية. وكان حلمها أن تكرر تجربة السويدي إنغريد برغمان والإيطالي بازوليني، اللذين مزجا بين الكتابة الأدبية والسينما، لكن، هيهات، فإن المقاومة الثقافية السلوكية للذكورة بالجزائر قد كانت مقصا حادا قص ريش حلمها ذاك. وكان ذلك سببا لأن تغادر سماء البلاد هناك، صوب باريس ونيويورك، حيث درست في أعلى معاهدهما وجامعاتهما لسنوات، قبل أن تختار عضوا بالكرسي الخامس بأكاديمية فرنسا، لتكون بذلك أول أديبة عربية تلج إلى تلك المؤسسة العلمية الرفيعة، قبل أن يلحق بها الأديب اللبناني أمين معلوف.مثلما أن وعيها باللغة كان وعيا متأسسا على وعي تاريخي عميق، وبإدراك أنها ليست مجرد كلمات نسمي بها أشياء العالم ونتمثلها من خلالها، بل إنها أساسا ترجمان للدواخل. ألم تقل في كلمتها الأولى أمام أعضاء الأكاديمية الفرنسية، إن هناك لغة للتعبير عن أفكارنا وهناك لغة أخرى للتعبير عن عواطفنا، محيلة على أن لغة أفكارها هي الفرنسية، أما لغة عواطفها فهي الأمازيغية والعربية. وأنها في الثانية أصدق، لأنها تكون على سجيتها، بلا كوابح. وها هنا، تبرز ميزة أخرى لآسية جبار، أنها لم تكن قط في خصومة مع لسانها العربي والأمازيغي، ولا كانت مستلبة للسانها الفرنسي الذي ظلت تكتب به كل رواياتها وقصصها وخواطرها وآرائها. وحين يجمع الواحد عناوين تميزها كامرأة مغاربية، أمازيغية عروبية، وأشكال إبداعها المتعددة، وتكوينها الأكاديمي في مجال التاريخ، مثلما يجمع النيغاتيف في فيلم سينمائي، تكتمل صورتها بهية عالية أنها كانت سيدة كبيرة كبر قدرها الذي واجهته بشجاعة كامرأة في بلاد المغارب. وبذات العنفوان المتشبع بغنى قصة جذوره في التاريخ، لم تلتف قط لما ظل يروج حول ترشيحها لجائزة نوبل للآداب، فهي لم تنتظرها قط، ولا سعت إلى الحديث عنها، لأن الشبع الروحي، حضاريا، لديها قد جعلها ترى للعالم دوما من فوق جبل المعرفة العالي الذي صنعها منذ طفولتها البعيدة. الطفولة التي ما نسيت فيها أبدا شقيقها الذي مات صغيرا هناك في بلدتها شرشال، والذي طلبت فقط أن تدفن جوار قبره.كاتب وصحفي من المغرب
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات