يروى أن الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورڤيبة، نصح الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، عندما سمع بمشاريع الصناعات الثقيلة في الجزائر، بأن يتوقف عن هذه الخطوة، ويهتم بالصناعات الخفيفة والصناعات التحويلية، وقال له مهما بلغت الجودة والإرادة، فلن تصل في الوقت الحالي لمنافسة ألمانيا وأمريكا وفرنسا وروسيا، بينما الصناعات الخفيفة والتحويلية، ستشغل اليد العاملة، وتضمن الاكتفاء الذاتي، وأيضا توفر العملة الصعبة، لأن الجزائر بوابة إفريقيا وستكون كل دولها زبونة لكم .. لم يأخذ طبعا هواري بومدين بهذه النصيحة، رغم أنه يعرف جيّدا المثل الشعبي، الذي نحفظه بالشرق الجزائري ”ألي فاتك بليلة فاتك بحيلة”، وتوجّهت الجزائر إلى الاستثمار في الصناعات الثقيلة وأهملت الصناعات التحويلية وقيدت الخواص، وأرهقت الاستثمارات في هذا المجال، وبعد أكثر من 20 سنة، بدأت الدولة تتخلى عن الصناعات الثقيلة، وتعاني من تبعات الصيانة والتسيير، ومصنع الحجار أفضل مثال عن ذلك، فقد تم بيع أسهمه إلى مستثمرين من الهند وكاد أن يغلق أبوابه، لتعود الدولة وتنقذه بخسائر كبيرة، بينما وصل بالمقابل حجم استيراد الجزائر من المواد التحويلية والغذائية التحويلية إلى حوالي 80 في المائة وتحققت نبوءة بورڤيبة، وفشلت سياسة الصناعات الثقيلة. للأسف ما زالت الجزائر تُسيّر بنفس العمى السابق، وإن كان للرئيس الراحل نية صادقة في جعل الجزائر قطبا صناعيا، ولم يكن يملك ربما المعطيات الكافية أو الكفاءات اللازمة لتحقيقه، فإن ما يتم اتخاذه اليوم من قرارات، لا يمكن إلا أن يصنف في دائرة ”الأعمى الذي يسير في الظلام”، فلا هو يرى، ولا حتى من يبصرون حوله يرونه، لينصحونه أو يوجّهونه إلى الطريق الصحيح .. وإلا كيف نفسر القرار الذي صدر مؤخرا في الجريدة الرسمية، عن تنازل الدولة عن 4000 هكتار من أجود الأراضي الفلاحية في 19 ولاية جزائرية لصالح المشاريع الصناعية، ومن المستفيد منها يا ترى؟ وهل انتهوا من تقسيم الصحراء بين نفط وغاز صخري، لينتقلوا إلى تقسيم التل؟ ومتى يأتي الدور على الجبال والبحيرات والسدود والوديان والواحات ”كليتو الدنيا ما زال غير الحجر ”.. والسؤال يطرح لصالح من سيكون هذا التنازل؟ ماذا سيستفيد الشعب مستقبلا؟ هل سنأكل مستقبلا قطع الغيار والإسمنت المسلح أو ننتظر رحمة الآخرين؟ تعمل الدول في العالم أجمع المستحيل من أجل الحفاظ على الأراضي الفلاحية والبيئة، بل ترفض مشاريع ضخمة من أجل ذلك، ودول أخرى تصرف الملايير من أجل استصلاح الأراضي واستغلالها، بل هناك من يزرع الجبال والصحاري وحتى البحيرات، بينما عباقرة التخطيط والتفكير في الجزائر ونظرا لعجزهم عن إيجاد مخرج حقيقي، وحل دائم لمشكل العقار الصناعي، بأن يفرضوا منطق سيادة الدولة والحفاظ على أراضيها الزراعية، فإنهم يلجأون إلى أسهل الحلول في تسوية مشكل العقار الصناعي، ويعتدون على الأراضي الخصبة التي تعتبر ملك لكل الشعب الجزائري، ولا يحق لأي أحد بجرة قلم أن يتنازل عنها. والسؤال هنا أين المجلس الشعبي الوطني؟ أين النواب الممثلين لهذه الولايات؟ لو حدث هذا في أي دولة محترمة لأقاموا الدنيا وأسقطوا السماء على رؤوس من اقترح هذا وصادق ووقّع على هذا القرار، أم أنهم يرفعون أيديهم ويحتجّون عندما يتعلق الأمر بعلاواتهم ورواتبهم فقط .. لم يبق لكم إلا السماء فوق رؤوسنا لتتنازلوا عنها رغم أن الواقع يقول أننا فعلناها من قبل عندما سمحنا للطائرات الفرنسية بالمرور عبر مجالنا الجوي .. بعتم كل شيء، لم يبق إلا أن نطلب منكم أن تتركوا مقابر الشهداء لا تعتدوا عليها وتتركوا لنا مكانا لندفن فيه باحترام فقط..
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات