يرتبط المسجد الأقصى بالعقيدة الإسلاميَّة لأنّه القِبلة الأولى للمسلمينَ، فهو أولى القبلتينِ، حيثُ صلَّى المسلمون إليه في بادئ الأمر نحو سبعة عشر شهرًا، قبل أن يَتَحَوَّلوا إلى الكعبة ويتّخذوها قبلتهم بعد أنزل الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} البقرة:144.ثمّ ازدادت مكانة المسجد الأقصى في نفوس المسلمين بالإسراء والمعراج، تلك المعجزة الّتي اختصّ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الإسراء:1. وقد ربطتِ رسالة الإسلام بين مكانة كلٍّ منَ المسجد الحرام بمكّة المكرّمة والمسجد النّبويّ بالمدينة المنوّرة والمسجد الأقصى بالقُدس المشرّفة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”لا تُشَدّ الرِّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى” متفق عليه.كما ورد عن أبي الدَّرداء مرفوعًا: ”الصّلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصّلاة بمسجدي بألف صلاة، والصّلاة في بيت المقدس بخمس مائة صلاة”. وهذه الأحاديث وغيرها إضافة على أنّها تُؤَكِّد مكانة المسجد الأقصى في الإسلام، فإنّها تؤصّل أيضًا مسؤولية المسلمين عنه حماية ورعاية وصيانة، وأنّه لا يجوز لهم شرعًا التّفريط فيه أو التَّهاون في حمايته واسترجاعه ممّن سلبه منهم. ونظرًا لأهميَّة هذه المكانة الدِّينيَّة الرَّفيعة للمسجد الأقصى وبيت المقدس وعلاقتهما الوثيقة بالعقيدة الإسلاميَّة، كان الفتح العُمَري لبيت المَقدس سنة 15هـ/ 636م، عندما دَخَلَها الخليفة عمر بن الخطاب سِلْمًا، وأعطى لأهلها الأمان من خلال وثيقته الّتي عُرِفَتْ بالعهدة العُمَريَّة، وقد جاءت هذه الوثيقة لتُمثّل الارتباط السياسي وحقّ الشَّرعيَّة الإسلاميَّة بالقدس وبفِلَسطين. وبعد تسلّمه مفاتيح مدينة القُدس من بطريرك الروم صفرنيوس، سار الفاروق عمر إلى منطقة الحرم الشّريف الّتي كانت خرابًا تامًّا في ذلك الوقت، وزار موقع الصّخرة المشرّفة وأمر بتنظيفها كما أمر بإقامة مسجدٍ في الجهة الجنوبية منَ الحَرَم الشّريف، ثمّ عمد إلى تنظيم شؤون المدينة فأنشأ الدَّواوين ونَظَّم البريد وعَيَّن العيون، وأقام يزيد بن أبي سفيان واليًا، وعيَّن عُبادة بن الصّامت قاضيًا فيها وعلى جند فلسطين.حَرَصَ المسلمون منذ الفتح العُمَري على شَدّ الرِّحال إلى المسجد الأقصى المبارَك للصّلاة فيه ونشر الدَّعوة الإسلاميَّة، وواصل علماء الإسلام من كلّ حدب وصوب شَدّ الرِّحال إلى المسجد الأقصى للتّعليم فيه، فكان منهم مقاتل بن سليمان المفسر (توفي عام 150هـ)، والإمام الأوزاعي فقيه أهل الشّام (توفي عام 157هـ)، والإمام سفيان الثَّوري إمام أهل العراق (توفي عام 161هـ)، والإمام الليث بن سعد عالم مصر (توفي عام 175هـ)، والإمام محمّد بن إدريس الشّافعي أحد الأئمة الأربعة (توفي عام 204هـ).وقد شهد المسجد الأقصى في القرن الخامس الهجري حركة علمية قويّة، جعلت منه معهدًا علميًّا عاليًا لعلوم الفقه والحديث؛ ذلك لكثرة ما وفد إليه من علماء المسلمين وأئمتهم للتّدريس فيه، والّذين كان أشهرهم حجّة الإسلام ”أبو حامد الغزالي” الّذي قدم إليه سنة 488هـ معتكفًا ومدرّسًا، وقد ذكر الإمام الغزالي أنّه شهد ثلاثمائة وستين مدرّسًا في المسجد الأقصى، الأمر الّذي يؤكّد المكانة الرّفيعة الّتي يتمتّع بها المسجد المبارك عند المسلمين. وبعد تحرير صلاح الدّين لبيت المقدس، عادت الحياة العلمية والدّينية في المسجد الأقصى بعدما انقطعت ما يُقارب قرنًا من الزّمن إثر الاحتلال الصّليبي له. فقد عاد المسلمون على اختلاف طبقاتهم إلى شدّ الرِّحال إليه لزيارته والصّلاة والاعتكاف فيه من جهة، والعلم والتّدريس والمرابطة فيه من جهة أخرى.لقد ابتليتِ الأمّة الإسلامية بهيمنة الاستعمار الغربي بعد سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924م، فكانت الأردن وفِلَسطين ومصر من نصيب المستعمر البريطاني الّذي عمد إلى منح اليهود وعد بلفور عام 1917م بتمكينهم من احتلال فِلَسطين، وقد كان لهم ما خَطَّطوا بإقامة الدولة العبرية عام 1948م على أرض المسلمين المباركة وابتلعوا القدس الشّريفة.ومنذ الاحتلال الصِّهْيَونِي لفِلَسطين والمحاولات حثيثة ودؤوبة لتدمير المسجد الأقصى وإزالته وإقامة الهيكل المزعوم مكانه، وهم يَعملون على تحقيق ذلكَ بشَتَّى الطُّرق والحِيَل والمُخَطَّطَات.. فكان الحريق الإجرامي الشّهير الّذي وقع للمسجد عام 1967م، وقبله وبعده العديد من الاختراقات الّتي قام بها متطرّفون صهاينة في حماية سلطات الاحتلال، وكلّ عام تدعو جماعة أبناء الهيكل إلى اقتِحام المسجد والتّمهيد لإقامة الهيكل، وربّما يعد التّهديد الأخطر الّذي يتعرّض له المسجد الأقصى هذه الأيّام المحاولات اللّعينة من المستوطنين اقتحامه وتهويده ومنع المصلّين المسلمين من دخوله والصّلاة فيه..إنَّ الأمّة مَدْعُوَّة اليوم أن تَهُبَّ لمُنَاصَرة الأقصى وحمايته منَ التَّدنيس والتّدمير والعدوان المستمر، وهي قضية إسلامية لا تبرأ ذمّة المسلمين منها أمام الله تعالى إلّا بنصرة إخوانهم في فلسطين والعمل بكافة الوسائل والسُّبل لاسترداد الأقصى والقدس وفلسطين كلّها.فينبغي على المسلمين جميعًا في مشارق الأرض ومغاربها حكّامًا وشعوبًا، علماء وإعلام ومنظمات، جماعات وأفرادا أن يتحرّكوا للدفاع عن القدس الشّريف وفلسطين في شتى الميادين وفي كافة الاتجاهات لأنّ الأقصى في خطر.. وقبل فوات الأوان..كلية الدراسات الإسلامية / قطر
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات