ما أسهل أن تبني جدارا وتشيّد بيتا وترمّم طريقا وتؤسّس جامعة، ولكن ما أصعب أن تبني إنسانا وتغيّر نفوسا وتطوّر عقولا، هذه هي المعادلة التي لم نطبّقها وبعد في سياساتنا الحكومية والاجتماعية والأسرية والفردية، ويكفينا الواقع فهو لسان الحال والناطق الشاهد على سوء المآل، والمصيبة الكبرى أننا لا نريد الحراك الأمامي إنما فضلنا الحراك الورائي. استحضر الآن في مخيلتي قصص الأنبياء، خاصة قصة محمد صلى اللّه عليه وسلم الذي بدأ- كما يقال بمعايير قياس تطور الأمم- من الصفر لكنه استطاع أن يغير وجه المعمورة ويقلب المفاهيم، وقصص الذي صنعوا التاريخ من الأمم الأخرى كنابليون الشخصية التي أثرت في الفرنسيين كثيرا وجعلتهم يجوبون أجزاء كثيرة من العالم، وقصة هتلر الذي نقل ألمانيا من الذل إلى التحدي في ظرف لا يفعله أي شخص أو شعب، وقصة الشعب الياباني الذي صنع معجزة بشرية على أعقاب معجزة نووية، أتت على البشر قبل الحجر، وقصة عبد الرحمن الداخل الذي فرّ من الشام إلى الأندلس وحيدا شريدا، لكنه استطاع أن يصير خليفة على الأندلس كلها، وقصة ابن باديس الذي أحيا أمة ميْتَة، وما أكثر النماذج التي تطبق حكمة: غيّر نفسك تغيّر تاريخك. إننا أمام فكرة عظيمة لم نستوعبها كما استوعبها أسلافنا البعيدن والقريبين، وكما استوعبتها الشعوب الأخرى واستوعبها أصحاب النفوس المريضة، فنابليون طبّقها في الاعتداء والقوة واستطاع أن يدخل إلى أعماق الأراضي الأخرى وهتلر انتقم لألمانيا وأكد لأعدائه أن الألمانيين ليسوا جبناء، ولكن الدين الوحيد الذي يضبط هذه الحكمة هو الإسلام، لأنه خال من الأمراض النفسية ومظاهر الظلم والجبروت، بل إنه يحث على تغيير النفوس تغييرا إيجابيا يكون سببا لهداية الناس والاقتداء بالمسلمين وتطبيق الشريعة الإسلامية المعتدلة بعيدا عن التطرف. لما بقيت فرنسا في الجزائر أزيد من قرن بدأت فرنسا تقتنع أنها باقية عندنا، فبحثت عن كل الطرائق التي تثبِّت بها ركائزها، لكن الشعب الجزائري لما قرر أن يغير هذا الواقع المهين استطاع في ظرف وجيز أن يزعزع فرنسا بأكملها بل العالم الثالث كله، وأن يؤكد مقولة: غير نفسك تغير تاريخك. كنت في حوار مع صديق يحدثني عن تغيير الواقع، فقلت له إن تغيير الواقع يبدأ بأن يغير كلٌّ نفسه ثم أسرته ثم مجتمعه، ولكن هذا التغيير صعبٌ لأننا لم نستوعب بعد الصدمة الحضارية التي أصابتنا، فالعالم قطار سريع جدا لا يعطي لك فرصة لتسترجع أنفاسك وتأخذ منه على مهل، فنحن نعاني من مشاكل نفسية واجتماعية خطيرة ونعاني من بيروقراطية رهيبة وإرهاب إداري أشد من الإرهاب المعروف، فكيف لنا أن نركز في قطار الحضارة لنأخذ منه ما قد يعيننا على السير في ركب التحضر، إننا فعلا أمام تحدٍّ كبير إذا انعدم معه الإيمان فإننا جميعا سنرمي أنفسنا في بحر لجّيٍّ مكدر، ولكن الذي نقوله بيقين تام: أن التغيير عملية منظمة تحتكم إلى العقل، فالذهاب إلى المجتمع مباشرة ومطالبته بتغيير الواقع لا ينفع، والمال وحده دون وجود نفوس متدينة وعقول سليمة لا يفيد، ولكن البداية تكون بتنقية النفوس وتفريغها من الأدران، لتأتي بعد ذلك الأعمال الجماعية المنظمة والصحيحة كما نشاهد اليوم في جميع الدول المتحضرة والسائرة على دربها.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات