كلما أعلنت اللجنة المانحة لجوائز نوبل عن أسماء الحائزين على تلك الجوائز يتطلع العرب والمسلمين لأسماء الفائزين بها فلا يجدوا غير تلك التقارير السلبية الصادرة عن بعض المؤسسات والمنظمات الدولية عن الوضع العربي المتردي في المجال المعرفي الموسوم بخلو جداول تصنيف أفضل 500 جامعة في العالم من أي جامعة عربية وبضآلة نسبة الميزانية العربية المخصصة للبحث العلمي والمقدرة بـ 0.2 0/0 إلى ناتجها الإجمالي المحلي، في حين تنفق إسرائيل حوالي 4.8 0/0 من ناتجها الإجمالي المحلي على البحث العلمي، و5 0/0 تخصصها أوروبا للبحث العلمي من مجموع ناتجها الإجمالي المحلي، أما جوائز نوبل فقد جاوز عدد العلماء اليهود الحائزين عليها الـ 85 عالما، أما الولايات المتحدة الامريكية، فإنها تتصدر قوائم جوائز نوبل وبراءات الاختراع ومراكز البحوث وتصنيفات الجامعات وغير ذلك من مؤسسات ومؤشرات إنتاج المعرفة وحجمها والاستثمار فيها، والذي يزيد الطين بلة هو تغطيتنا الإعلامية للإعلان عن جوائز نوبل والتي جاءت باهتة وضعيفة، إذ خلت نشرات الأخبار من تقارير علمية مفصلة وكذا الصحف التي تفتقر أصلا إلى صفحة العلوم من تغطية هذا الحدث ذو الدلالات الكبرى في تحديد موازين القوى وتوزيع القوى الاقتصادية في العالم باعتباره أحد المؤشرات الهامة على القوة السياسية بمركباتها الاقتصادية والعسكرية. قبل نصف قرن من الزمان كان الأكاديمي الأمريكي هانس مورغانتو رائد المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، يقول إن القوة هي المصلحة والمصلحة هي القوة ولو شهد مورغانتو التسارع المذهل لتفاعلات الانفجار المعرفي ومنجزاته الاقتصادية والعسكرية لربما قال “القوة هي المعرفة والمعرفة هي القوة”، فمفهوم مورغانتو للقوة كان يتحدد في مركباتها المادية غير الملموسة من مواد خام وثروات بينما باتت المعرفة الرمزية غير الملموسة تشكل الخلفية الرئيسية للقوة ومن أهم متغيراتها ومركباتها.لقد أصبحت الأعمال التجارية تعترف بشكل متزايد بقيمة الأصول التجارية غير المادية الكامنة في المعرفة، فرأس مال المؤسسة التجارية الذي كان يقوم على أصول تجارية ملموسة من المباني والآلات والبضائع تحوّل مع الاقتصاد القائم على المعلومات إلى معرفة في شكل قيمة مضافة حوّلت الأصول المادية إلى أصول غير ملموسة متمثلة في تصاميم المهندسين ومهارات الإدارة وولاء المستهلكين.وبسبب التحول التدريجي لرأس المال إلى معرفة انخفاض استخدام المواد الخام والعمالة التقليدية والحيز ورأس المال، الأمر الذي استلزم تحديد مؤشرات ومعايير جديدة لتوزيع القوى الاقتصادية على مستوى النظام الدولي وتوفير أدوات جديدة لإدارة القوة بعد أن دخل الكومبيوتر في العملية الصناعية وبعد أن أدت الثورة في المعلوماتية وفي التكنولوجيا الحيوية، إلى ابتكار مواد جديدة في الصناعة وفي الهندسة الوراثية، فضلا عن تطوير تطبيقات النانو تكنولوجي والتي بتنا نلمسها في كافة مجالات حياتنا اليومية، إنها ثورة معرفية جديدة جعلت السلطة الحقيقية بيد رأس المال المعرفي.وبهذا التدفق الهائل للمعرفة تحولت أنواع الحروب بين القوى الدولية في المجال الاقتصادي من حروب على الثروات المادية إلى حرب الاستخبارات الصناعية القائمة على حيازة المعرفة باعتبارها مصدرا لخلق الثروة والتي تعرف بحرب المعلومات، حيث إن معارك غير مرئية تحتدم يوميا من أجل الحصول على المعلومات المعرفية التي تحتاج إليها الشركات في سعيها للتجديد المستمر لمنتجاتها، فتجديد المنتج يحتاج إلى تراكم معرفي ومزيد من الوقت والمال، فتصميم رقيقة إلكترونية يقتضي سنوات من العمل وملايين الدولارات، بينما النسخ أو ما يعرف بـ«عملية الهندسة العكسية” الذي تقوم به جهة منافسة أسرع وأرخص، فمن خلال تفكيك منتج منافس ومعرفة التكنولوجيا الكامنة فيه تستطيع الشركة تضييق الفجوة بينها وبين منافساتها من الشركات الأخرى في إطار الاستخبار التنافسي الاقتصادي، والهدف من ذلك كله هو التحكم في أهم مورد من موارد الإنتاج والمتمثل في المعرفة بسبب دورها في إضافة القيمة.كما للمعرفة دور في ارتفاع حجم التبادلات على إثر ما تحركه يوميا أسواق المال العالمية من أموال بسبب الانتقال الفوري للبيانات الذي تضمنه أنظمة الحواسيب المتجددة بفضل الاجتهاد المعرفي، الأمر الذي أدى إلى تخفيض تكاليف الاتصال وفتح مزيد من الأسواق وسرعة تصدير المنتجات وتحسين الأداء، وهو ما تستفيد منه الشركات المتعددة الجنسيات التابعة للقوى الدولية.إن الإعلان عن جوائز نوبل ليس حدثا عاديا، إنه إعلان عن توزيع القوى الاقتصادية في العالم وإعلان عن الحائز على أعلى نسبة من رأس المال الفكري، وفي النهاية هو إعلان معرفي سياسي عن المتحكم في اللعبة الدولية.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات