تتجه العلاقة بين السلطة والمعارضة إلى نقطة القطيعة الكلية، فبالنسبة لقوى المعارضة الجزائر بحاجة إلى ”التغيير” لمنع انفجار الأوضاع بها، جراء ما تسميه حالة الشغور في منصب رئيس الجمهورية الذي، حسبها، لم يعد قادرا على القيام بمهامه الدستورية، وغيابه عن مجريات الأحداث جعل مؤسسات الدولة مصابة بالشلل، لكن من جهة محيط الرئيس يتم الاجتهاد في كل مرة لتفنيد ما تطرحه أحزاب المعارضة ومحاولة التغطية في كل مرة على غياب الرئيس المريض، وكأن الأمور تسير على ما يرام ولا يوجد ما يستدعي حالة القلق التي تغذيها تنسيقية الانتقال الديمقراطي. هذه الوضعية تؤشر أن بين السلطة والمعارضة قطيعة ترسّمت، وكل جهة مقتنعة بأجندتها، وهو تصدّع من شأنه الرمي بظلاله على الجبهة الداخلية التي تنتظر وتترقب.غياب الرئيس زاد من حالة الترقّبعندما تمرض الرئاسة تصاب الجزائر بالركود يتعرض المطالبون بإعلان حالة شغور منصب رئيس الجمهورية، لانتقاد شديد من طرف المدافعين عن عبد العزيز بوتفليقة المتمسكين باستمراره في الحكم، ويرون فيهم ”أعداء للاستقرار والتنمية باحثون عن الفوضى والمجهول، يريدون للجزائر مصيرا شبيها بليبيا”. في سنة 2011 عقد بوتفليقة 5 مجالس وزراء وزار فرنسا ومصر وغينيا، ونظم خروجا ميدانيا إلى العاصمة وتمنراست، وألقى خطابا شهيرا أعلن فيه عن ”إصلاحات” (15 أفريل) اتضح فيما بعد أنها خدعة للالتفاف على مطالب الحريات والديمقراطية على خلفية الربيع العربي. في العام الموالي عقد الرئيس مجلسي وزراء وخاطب الجزائريين مرة واحدة، قائلا إن ”جنانو طاب”، تاركا الانطباع بأنه لن يترشح لفترة رئاسية رابعة. في عام 2013 توقف نشاط بوتفليقة بشكل كامل بسبب الإصابة بجلطة في الدماغ، بالرغم من ذلك ”صدرت” عنه أقوى القرارات أهمها تجريد جهاز المخابرات من أدوات قوته، هي شرطة المخابرات وأمن الجيش ومراقبة الإعلام والتنصت على الاتصالات الهاتفية. عزز بوتفليقة من سلطات وصلاحيات الرئاسة بضم مهام ووظائف كانت من صميم عمل المخابرات، وبذلك فالمؤسسة الوحيدة التي كانت تنازع الرئاسة في الكثير من المسؤوليات، قلّص من هامش نفوذها إلى حد بعيد، وبذلك عندما توقف نشاطه تماما في 2014 أصيبت البلاد بشلل شبه كامل. وأصلا كان بوتفليقة يملك سلطات السلطان منذ التعديل الدستوري 2008، فقضى على ازدواجية السلطة التنفيذية وحرم رئيس الحكومة (الذي حوّله إلى وزير أول)، من صلاحية التعيين في المناصب ومن اتخاذ قرارات في اجتماعات الحكومة. أما البرلمان، فبما أن مقترحات القوانين التي مصدرها النواب على قلتها ترفض، فقد أصابه الشلل لقلة مشاريع القوانين التي تصله والتي توقفت بتوقف الجهاز التنفيذي. في فرنسا، التي استنسخت هيئاتنا من هيئاتها، وآليات عمل الحكومة والمؤسسات عندنا أخذت مما يجري فيها على صعيد التسيير، يشارك رئيسها في كل صغيرة وكبيرة تهم البلاد. يتفاعل مع الأحداث، يعقد المؤتمرات الصحفية يشارك في النقاش ويسافر للخارج دفاعا عن مصالح بلده. فرانسوا هولاند دائم الحضور في الإعلام والنقاش السياسي، يتعاطى مع قضاياه الشخصية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالشأن العام. ما يجري عندنا العكس تماما. فالرئيس بوتفليقة غائب عن أهم القضايا، وبغيابه المستمر عن المشهد يقدم الدليل على أنه عاجز عن آداء وظيفته ، ولكن لا يخجل الوزير الأول وبعض الوزراء المتزلفين في لوم الإعلام على استفساره عن غياب الرئيس، بحجة أن ”المؤسسات تسير والحكومة تشتغل” فليس هناك داع للسؤال عن بوتفليقة. ليس مهمّا في نظر الموالين لبوتفليقة أن نسأل عن شخص ركّز بين يديه سلطة تعيين في المسؤولية تمتد من أمين عام البلدية، إلى الوزير الأول إلى رئيس المجلس الدستوري إلى رئيسي المحكمة العليا ومجلس الدولة، إلى رؤساء المجالس القضائية والنواب العامين. بل لا يجد حرجا في اختيار رئيس سلطة تشريع القوانين، وفي إصدار الأوامر، من موقعه رئيسا للجمهورية، لأمين عام الأفالان للانتقام من مسؤول أفالاني لم تعجبه تصرفاته! فليس غريبا إذن أن تتوقف أحوال بلد بكامله عندما يقوده شخص بمواصفات عبد العزيز بوتفليقة.حذرت من الأخطار ودعت لتفعيل المادة 88قوى المعارضة ترفع مطلب الشغور هل ستدفع مقولة الرئيس بوتفليقة بأنه ”في حالة أحسن”، في آخر ظهور له لدى استقباله الأخضر الإبراهيمي، إلى تراجع حدة الجدل حول تفعيل المادة 88 من الدستور التي تطالب بها المعارضة؟ أم أن الوضع سيستمر على حاله طالما بقي الرئيس لا يظهر في الأماكن العمومية ويكتفي من حين لآخر بطلة عبر التلفزيون؟ رغم ظهور بوتفليقة هذه المرة، بعد كثافة الإشاعات حول غيابه، إلا أنها عودة لن تكون عكس المرات السابقة، ولن تنهي الأسئلة المطروحة بشأن قدرة الرئيس على ممارسة مهامه فعليا. ويتجسد هذا الأمر في عدم تغيير تنسيقية الانتقال الديمقراطي لأجندة تحركاتها وخرجاتها للولايات من أجل المرافعة على ضرورة ”التغيير” والمطالبة بتفعيل المادة 88 من الدستور وإعلان حالة الشغور، ما يعني أن عودة الرئيس للظهور مجددا عبر التلفزيون، لا ترى فيه مؤشرا مطمئنا على أن رئيس الجمهورية يمسك بزمام الأمور، مثلما يحددها الدستور. وتستند المعارضة في مطالبتها مجددا بإعلان حالة شغور منصب الرئيس، إلى غياب الرئيس في الكثير من المواعيد الهامة، وبرأي عبد الله جاب الله، فإن ”رئيسا لا يقوى على ممارسة صلاحياته ولا يستطيع مخاطبة الرعية، فكيف له أن يستمر في شغل هذا المنصب الحساس الكبير الذي هو منصب رئيس الجهورية”. وتجلي غياب الرئيس في عدم افتتاح السنة القضائية الذي هو عرف معمول به منذ سنوات، وأيضا عن صلاة عيد الأضحى وفي عدم التئام مجلس الوزراء، وكان غيابه أكثر بروزا في قضية اغتيال الرعية الفرنسي، حيث اضطر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند للاتصال مرتين بالوزير الأول عبد المالك سلال، وهو أمر غير جائز في الأعراف الدبلوماسية ويكشف عن خلل في سير مؤسسات الدولة. وتكون هذه الوضعية وراء ما ذهب إليه الناشط الحقوقي مقران آيت العربي بالقول ”فالسلطة أمام خطورة الأزمة تختفي وراء رئيس لم يره ولم يسمعه الشعب منذ أداء اليمين الدستورية، وتزعم أنه بخير وأنه يسيّر شؤون الدولة بطريقة عادية، والمعارضة تفتقر إلى أفكار جديدة وواضحة، وإلى مصداقية لطرح مشروع متكامل للمساهمة الجدية في إحداث التغيير بالوسائل السلمية، وهذا ما جعلها تعود أحيانا إلى طرح فكرة تفعيل المادة 88”، ولم يكتف بذلك بل يرى آيت العربي أن ”الدولة اليوم في خطر”، مقترحا للخروج من هذه الحالة ”تعيين شخصية وطنية كوزير أول وتمكينه من تشكيل حكومة من الكفاءات المستقلة، وتقوم هذه الحكومة بإعداد برنامج استثنائي (حتى لا نقول انتقالي) بالتشاور مع الرئاسة والأحزاب والشخصيات ويصادق عليه المجلس الوطني ليصبح ملزما للجميع، مع تفويض مهام الرئيس للحكومة باستثناء المهام العالقة برئيس الدولة”، في إشارة إلى أن وضعية الرئيس الحالية ”غياب” لا تحتمل الاستمرار.وتدفع قيادات تنسيقية الانتقال الديمقراطي أو قطب التغيير أو هيئة التشاور والمتابعة، باتجاه جعل مطلب تفعيل المادة 88 من الدستور، ليس مطلبا خاصا بها، بل بجعله مطلبا عاما تسعى من وراء خرجاتها الميدانية للولايات، لإقناع به مختلف الأحزاب والمنظمات وشرائح المجتمع، بعدما لم تجد آذانا على مستوى المؤسسات الرسمية للدولة.حـــوارالضابط السابق بالجيش والمحامي مسعود عظيمي لـ”الخبر””نعيش أخطر وضع منذ الاستقلال ”الوضع السياسي الحالي محل انتقاد من العديد من الأطراف، في ظل مطالب المعارضة بإعلان حالة الشغور وسلطة صامتة، ما رأيكم؟ الوضع الحالي أسوأ وضع تعيشه البلاد منذ الاستقلال، لأنه حتى في التسعينات، وفي أوج الإرهاب، كان هناك أمل وكانت المؤسسات قائمة وجميع الفئات التفت حول مؤسسة الجيش في محاربته الإرهاب، والخارج يعترف أن الجزائر حاربت الإرهاب بمفردها، واستطعنا الخروج من عنق الزجاجة، لكن اليوم مع الأسف الشديد، فإن أهم مؤسسة في البلاد عاطلة بسبب مرض الرئيس، وإصرار أطراف على العهدة الرابعة. حاليا الرئيس غائب والنظام السياسي تحول إلى رئاساوي، كل القرارات فيه تعود إلى رئيس الجمهورية، رغم أن مؤسسة الرئاسة مشلولة والمثل يقول ”إذا مول الدار كان زرناجي فأولاده يكونون طبّالة”، فالمال العام مسيب، والمؤسسات عاطلة والمستقبل لا يبشر بالخير إطلاقا، خاصة مع تدني أسعار المحروقات وتراجع كمية البترول المصدرة إلى الخارج.وما العمل للخروج من هذه الوضعية؟ أتمنى أن يتكتل كل الوطنيين من أجل التوصل إلى حل بأسرع ما يمكن، لأنه إذا أضعنا الفرصة الحالية فعلينا بعدئذ أن نقرأ الفاتحة على البلاد، وحسب آراء اقتصاديين، فإن الجزائر ستعيش أزمة خانقة عام 2017، ماليا واقتصاديا، وبالتالي فإن سياسة شراء السلم الاجتماعي لن تعود مجدية، ما يرشح دخول البلاد في أزمة رهيبة. وأعتبر أن ما قدمته هيئة التشاور في إطار تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي، هو الحل ولا ينبغي أن نغطي الشمس بالغربال، وعلى السلطة أن تعترف بقدرة المعارضة على التكتل وأنها طورت خطابها وتمكنت من التوحد، لما أصبح الأرسيدي يلتقي مع الإسلاميين بصفة عادية، وأرى بضرورة المرور بمرحلة انتقالية عن طريق التفاوض مع السلطة، والأخيرة ليس أمامها سوى الاعتراف بالمعارضة والجلوس معها إلى طاولة الحوار. نحن أمام أزمة أمنية خطيرة على الحدود مع ليبيا ومالي والنيجر، وأيضا على الحدود مع المغرب يتطلب حلها إشراك كل الفعاليات السياسية.ما رأيكم في مطلب المعارضة، بإعلان حالة الشغور، هل فعلا شارفنا هذه المرحلة. اعتقد أنه مفروض أن هناك مؤسسات تقوم بواجبها، ووصلت المعارضة إلى هذا المستوى من المطالب، بعدما رأت أن كل مؤسسات الدولة لا تقوم بواجبها، فدعوتها نابعة من سعيها إلى الحفاظ على مستقبل البلاد من خلال مناداتها بتفعيل المادة 88 من الدستور. لكن السلطة ترفض ذلك، وتحيل الجميع إلى مخاطر تهدد البلاد وإلى مؤامرات خارجية؟ المصالح الخارجية موجودة، لكني قبل ما ألوم الخارج، باعتباره يبحث عن مصلحته، ألوم السلطة، ففرنسا تتدخل اليوم أكثر من أي وقت مضى، لكن نحن كسلطة ومعارضة يجب أن نتساءل: ماذا قدمنا للبلد من أجل تجنبيه الفوضى، لكن يجب أن أنبه أن من يقول إن الجزار قامت بربيعها عام 88 مخطئ، فالمستقبل فعلا مخيف والمسؤولية الكبرى تقع على عاتق السلطة، لأن المعارضة تنازلت عن الكثير من مواقفها وأثبتت أنها قادرة على التنظيم والتأطير في حال حدوث أي طارئ.الجزائر: حاوره محمد شراقمحمد ذويبي، الأمين العام لحركة ”النهضة” لـ”الخبر””هناك شغور فعلي في الرئاسة”الوضع السياسي الحالي محل انتقاد من العديد من الأطراف في ظل مطالب المعارضة بإعلان حالة الشغور وسلطة صامتة، ما رأيكم؟ أعتقد أن طبيعة الدستور الجزائري تضع كل السلطات في يد الرئيس، هذا يعني أنه يجب على الرئيس أن يكون قادرا على التسيير، لكن الوضعية الصحية الراهنة لبوتفليقة لا تؤهله للبقاء في السلطة، فهناك تناقض بين ما هو في الدستور والوضعية الصحية للرئيس، فهو لا يخاطب شعبه ويتركه يعيش على الإشاعات في انتظار أي معلومة تأتي من الخارج حول صحته، فأصحاب الإشاعة يرهنون الدولة والشعب معا، والأصل أن المجلس الدستوري يقوم بمهمته في هذا الشأن، لكن هذا المجلس مغيب، أما عمليا وواقعيا فهناك شغور فعلي في منصب رئيس الجمهورية.وما تأثير هذه الوضعية على سير المؤسسات ومصلحة المواطن؟ صراحة، الجزائر تعيش وضعا غير سليم في هذه المرحلة، بالنظر للتحديات الداخلية والخارجية ، ولا يخفى على أحد أن دول الاستدمار لها أطماع في خيرات الشعوب وتريد الآن أن تبقى هذه البلدان ضعيفة، بفصل أنظمتها عن شعوبها، وتعمل بمبدأ إما بقاء الأنظمة بالفساد أو الذهاب إلى حالة الفوضى، بينما تغض الطرف على الخيار الثالث وهو إحلال الحريات ومواجهة الأخطار الخارجية. في نظري، الجزائر شرعيتها غائبة وصوت المواطن مغيب وهو خارج معادلة التنمية، في ظل اقتصاد هش، كما أن أي إخلال في أسعار الطاقة يؤثر على ميزانية الدولة. نحن في وضع اجتماعي هش، وقدرة شرائية متدهورة، والدليل ما حدث خلال عيد الأضحى، من ارتفاع جنوني في الأسعار. ومن يتحمّل مسؤولية كل هذا، وهل فعلا مطلب إعلان حالة الشغور وجد ما يبرره؟ الكل يعلم أن رئيس الجمهورية لا يتكلم كما أن مجلس الوزراء، صار يلتئم مرة كل سبعة أو ثمانية أشهر، بينما الوضع الحالي الموسوم بالخطورة في الجزائر يتطلب من الرئيس جمع مجلس للوزراء على الأقل مرة كل 15 يوما، فإذا غاب الرئيس، من يقرر؟ اعتقد أن القرار صار موزعا على جهات متعددة، وهناك من يقرر حتى أن تكون له صلاحيات القرار، وأعتقد أن المحطة التي تعيشها الجزائر، محطة مسؤوليات، فبالنسبة للمعارضة فقد التقت حول طاولة وتنازلت من أجل مصلحة البلاد، ووضعت أرضية سياسية بمعالم واضحة وخطوات واضحة وخيارات واضحة أيضا، نحن نريد انتقالا ديمقراطيا سلميا ومتفاوضا عليه، وليس انتقال فوضى، لكن السلطة تقرأ الرسائل بطريقة سلبية، وهي تفوّت الفرصة على الجزائر للخروج من المأزق.ربما السلطة ترى أن هناك وضعا إقليميا متدهورا، ولا يمكن المخاطرة بانفتاح على المعارضة مرحليا على الأقل فتسوء الأمور؟ سبق وأن قلت إن هناك من لا يرى سوى طريقين، إما بقاء الفساد ومعه النظام وإما الفوضى والقتل والتشريد، لكننا نحن تبنينا خيار العمل من أجل الحريات والانتقال السلمي، صحيح أن السلطة تتخذ من تخوف المواطن، من الانزلاق ذريعة للبقاء، لكن الواقع أنها عاجزة اليوم عن تسيير شؤون البلد، ومن مصلحة السلطة أن تعيد النظر في تفكيرها وتسييرها للشأن العام. الجزائر: حاوره محمد شراق
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات