في مطعم من مطاعم العاصمة الشعبية؛ جاور طاولتي رجلٌ فرغ من طعامه، وأخذ في الكلام بصوتٍ عالٍ يتقصّد إسماع الجميع، كأنّه لفرط قناعته بما يقول يتحدّانا أن نردّ عليه، سيما وقد خالسني خزراتٍ أنبأَتْـهُ أنني أُشبه المتديِّنين، والموضوع الذي استـثاره كان ذا صلة بالدِّين في نتيجته، وبالدّنيا في مقدّمته التي كانت عن التطوّر التقني الذي وصل إليه الغرب، فجعل يسمِّي لنا “موديل” سيّارته وما فيها من خصائص عالية، ثمّ نوع هاتفه المحمول وما يتميز به من تقنيات فريدة، ثمّ اسم الآلة التي تصفِّي الدم، والأخرى التي تضخُّه، والثالثة التي تقيس نسبة السّكر فيه، بنبرة وسعت من الذّهول والاستعظام فوق ملئها، ثمّ خلص جازماً إلى النـتيجة محلِّ التحدّي، وهي أنّ مخترعي هذه الآلات مصيرهم المحتوم هو جنّة الخلد، أي: بغضّ النظر عن عقيدتهم في اللّه، وعن عبادتهم له، وكيف يكونون- بزعمه- من أصحاب النار، وهذه سوابغ نعمهم على الإنسانية شاهدةٌ بسبقهم في الخير الذي لا يقدِّم المسلمون اليوم عُشر معشاره؟! وأضاف: إن كان لا بدّ للنار من ناس يدخلونها؛ فأمثالنا من “الـمقمّلين” و«الموسخين” و«المتخلّفين” أولى الناس بالنار من أولئك.. فتساءلت في نفسي ما قيمة العقيدة الصحيحة في اللّه عند هذا الرجل؟ ما قيمة لا إله إلا اللّه؟ ما قيمة عبادة اللّه حق العبادة؟تقدّم أحدُ أقربائي لخطبة فتاة كانت على قدرٍ من الجمال والحسب عزيز، وكان قريبي حافظاً لكتاب اللّه، طالبَ علمٍ لامع، جاوز في الدراسة العليا مرحلة الماجستير في طريقه إلى تحصيل الدكتوراه، نجيـبًا ذكيًّا، خلوقًا تقيًّا، لكنّه قليلُ ذات الجَيْب، لم يجمع يديه بعدُ على سكَنٍ فسيح، ومركبٍ مُريح، ومركزٍ مرموق مليح، صعَّد والدُ الفتاة البصرَ في قريبي ثمّ نكّسه قائلاً: على كثرة الخاطبين لابنـتي؛ لم يأتني رجلٌ خيرٌ منك في خُلقٍ ولا ثقافة ولا دين.. لكن.. لكن.. لكن لا أدري ما أقول.. بيننا الهاتف، وانفضّ المجلس على تلعثم والد الفتاة، وعلى اعترافه الصّادق ووعده الكاذب.. فتساءلتُ إثر سماع القصة من قريـبي: ما قيمة الدِّين والخُلق عند هذا الوالد بالنسبة إلى قيمة المال؟ ما قيمة قوله صلى اللّه عليه وسلم: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوِّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير”؟من سوء حظّ قريبي الدكتور أنّ شهادته لا تسمح له إلاّ بممارسة التعليم، وهو في بلادي بابُ رزقٍ مقدودٍ بقدِّ الحاجات الضّرورية لا غير، بينما حنجرة المغنّي وقدم لاعب الكرة- على علاّتهما- تفتحان في بلادي أبواب السّماء بمالٍ منهمر، مفارقةٌ سحيقةٌ تعْلَمُها أيضًا إذا زُرتَ مقرّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، أو قارنت بين مسكن أحد أعلام الفقه والشريعة في الجزائر ومسكن صنّاجة أو لعّابة، أو قارنت بين ميزانية وزارة الشؤون الدّينية برمّتها وبين الراتب السنوي لمدرِّب الفريق الوطني لكرة القدم.. أو قارنت.. أو قارنت.. أو قارنت.. فأصبحت أتساءل: ما قيمة العِلم والعلماء بالنسبة إلى قيمة الغِناء واللّعب في بلادي؟ أين نحن من قوله صلى اللّه عليه وسلم: “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم”، فما بالك بفضله على اللاعب والمغني؟حدّثني صاحبي أنّ والده الطبيب صديقٌ حميمٌ لأحد علماء الجزائر في تخصّص جراحة القلب، وهذا العالم أكمل دراسته التخصّصية إلى أبعد ما يمكن، وأصبح ملء السمع والبصر، يروي صاحبي عن والده عن صديقه العالم: أنّه لا ينـتوي الرجوع إلى الجزائر، ليس لأنّه عديم الوطنية، بالعكس؛ لأنّه جاء يومًا إلى الجزائر، وأراد أن يقترح على وزارة الصحّة مشروع إنشاء مؤسّسة طبية تعالج النوع الذي تخصّص فيه من أمراض القلب، والذي لا يعالَج إلاّ في بعض الدول المتطوّرة، وذهب إلى الوزارة، وجلس يتنظّر طويلاً، إلى أن “هَرَّت” السكرتيرة في وجهه قائلة: “واش تسحقّ؟”، هكذا بلا أدنى حدٍّ من الظَّرْف وأدب الاستقبال، فعرّف بنفسه من خلال بطاقة عمله الشخصية، وكانت زاخرةً بالألقاب والأعمال والمسؤوليات، فقالت “السكرتيرة” وقد اجتمع فيها وفيمن نصّبها هذا المنصب التخلّفُ والتعالي: “واش.. تخلعني؟!”.. ثمّ لم يتمّ اللقاء لأنّ المسؤول زعم أنّه مشغول.. رجع العالم إلى كندا، وهو الآن يشغل فيها وفي أمريكا مناصب عالية، تساءلتُ في نفسي: ما قيمة الكفاءة؟ ما قيمة النهوض بالفروض الكفائية الضرورية والحاجية؟ ما قيمة العمل في بلادي؟درستُ في جامعة عربية ذات سمعة طيّبة في المشرق العربي والعالم الإسلامي، وكان من محامدها الفاعليةُ الإدارية واحترام قيمة الوقت، تُقدِّم مشروعَ أطروحتك فيتمّ عرضُه على لجنة القسم ولجنة الكلية ولجنة الدراسات العليا في غضون أسبوعين إلى ثلاثة، يصدر خلالها قرار قبول المشروع من عدمه، فإذا فرغت من أطروحتك وقدّمتها للمناقشة؛ يُحدَّد لك موعد المناقشة في غضون شهر واحد؛ لأنّها الفترة التي تتطلّبها قراءة الأطروحة من طرف المناقشين عادةً، وإذا ناقشتَ تستلم شهاداتك وأوراقك النهائية في ظرف أسبوع واحد، لعلّ القارئ غير الجزائري يقول: ما الغرابة في هذا؟ أقول: لا غرابة، لكن إذا شئت أن ترى الغرابة جسدًا يمشي على رجلين، إذا شئت أن ترى قيمة الوقت مهدرةً كأفحش ما يكون الإهدار؛ تعال إلى جامعات بلادي لترى أنّ الردّ على مشروع أطروحةٍ يأخذ شهورًا، وتعيين موعد مناقشة يتطلّب شهورًا، والحصول على الشهادات يستغرق شهورًا، كلّ شيء بالشهور والسنة والسنوات، حتى أصبحتُ أقول لمن يسألني عن الجديد: الجديد في الجزائر ليس كلّ يوم، ولا كلّ شهر، الجديد في الجزائر مرّة في السنة، وإذا داخلكَ ريبٌ بأنّ في الكلام شيئاً من المبالغة والتهويل؛ فإنني أعرف من انتظر بملء الضّجر معادلة شهادته من قِبل وزارة التعليم العالي قرابة العامين، ومعادلة الشهادة شُغل يوم واحد، أو أسبوع واحد على فرض كثرة الطلبات، فماذا تنتظر الوزارة، وماذا يعيقها؟ هل تنظُر إلاّ إلى فقرٍ مُنْس، أو غنى مُطْغ، أو مرض مفسد، أو هرم مفنِّد، أو موت مُجهِز، أو الدّجال؛ فشرّ غائب يُنتظر، أو السّاعة؛ فالسّاعة أدهى وأمرّ؟! وها أنذا أتساءلُ: ما قيمة أربعة شهور، وستة شهور، وسنة كاملة عند هذه الوزارة؟ ما قيمة الوقت في بلادي؟جارةٌ أرملةٌ من جيران الحيّ، ضاقت عليها وعلى أولادها الصّغار والمراهقين سبل الرزق؛ إذ ليس لها بعد اللّه مُعيل، إلاّ دخلاً ضعيفاً تجنيه من كدحها شغّالةً في بيوت بعض الميسورين، فحدث أن مدَّ أحدُ أبنائها المراهقين أصابع الاختلاس إلى محفظة إحدى السيّدات في الشارع، فانتشل منها دراهم معدودات، فشكت السيدة حالها لمصلحة الأمن، فاستأسدت هذه الأخيرة في القبض على الغلام، وأودعه القضاءُ السجنَ لمدّة ستة شهور، فوجدتُني أتساءل: أين حقُّ هذه الأرملة وأولادها في بيت المال، في خزينة الدولة، في سهم الزّكاة، أين حقّ ولدها في العمل؟ في ثروة الأمّة التي أتخمت كروشَ أقلية قليلة إلى حدّ تغيير خلق اللّه، فأصبح الواحد منهم أشبه بـ«الكنغر” منه بالإنسان، بينما يتقمّم بعض الشعب قشور الزِّبالة وحُتات الخبز، أين التوزيع العادل للثروة؟ أين استـئساد مصالح الأمن ومؤسّسة القضاء على “الديناصورات” الكبيرة المتورِّطة في النهب والغصب والفساد إلى درجةٍ يقصُر اللّفظ عن وصف شُنْعتها؟ أين قيمة العدل؟ أين قول اللّه تعالى: “إن اللّه يأمر بالعدل”؟إنّها ظواهر تضرب في المجتمع أرسخ العروق، حتى صارت هي القاعدة المطّردة، وغرضي من هذا الأسلوب في تشخيص الأحداث أن أنطلق من واقعٍ حيّ، لأقول: إنّ الذي يحدث في بلادي هو اختلالٌ فادح، وانتكاسٌ خطيرٌ في سلّم القِـيَم على مستوى الأفراد، والمجتمع، والدولة، فقد أصبحت القيم الفعلية هي: السلطة، والثروة، والنّفوذ، والمصالح الشخصية المتبادلة، و«المعريفة”، والجهوية، والمحسوبية، وهلمّ جرجرة. إنّ الذي يحدث في بلادي لمؤذنٌ بفسادٍ عريض، وخرابٍ رهيب، ها هي أشراطه الكبرى تتجلّى في ظواهر الحِرابة، والجريمة المنظمة، والعنف الاجتماعي الذي بلغ حدّ اختطاف الأطفال، والاعتداء عليهم جنسياً، وقتلهم، والمتاجرة بأعضائهم.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات