ما يجري في المنطقة، من أفغانستان إلى المغرب، يحمل ملامح متغيرات وتغييرات لا حصر لها ولا يمكن توقع جل تداعياتها. المنطقة تعيش ليس على وقع اتجاهات التقسيم، كما يلح البعض، ولكنها تعيش الفوضى التي قد تدوم سنين طويلة، قبل أن تستقر على جغرافية سياسية جديدة محددة. ما يمكن قراءته، في الدراسات والكتابات، عما يراد لها في استراتيجيات الفاعلين الدوليين، وخاصة الولايات المتحدة وحلفائها، إسرائيل ثم أوروبا الغربية، مثير للخوف بل ويُعِدّنا لنكون على ”استعداد!” لقبول أي شيء. الفوضى أو التقسيم أو كلاهما.ويبدو أن المرغوب الآن في هذه المنطقة هو الفوضى وعدم الاستقرار، وليس وضع أي خارطة سياسية جديدة. وذلك يؤشر لمسألتين هامتين: الأولى هي أن المنطقة هامة استراتيجيا وهي موضوع إدارة وصراع، وهي تبحث عن هوية تأسيسية وعن دولة. والثانية هي أن الفاعل الأساسي في مصير المنطقة مازال الخارج ومصالحه واستراتيجياته.لقد انتهت مرحلة هي مرحلة ما بعد الكولونيالية، والسؤال الذي ينبغي طرحه هو: أي ”إرادة” يمكن أن تنتج عن هذا الوضع وعن الفوضى التي نشرت في المنطقة؟واضح أن المرغوب، في هذه ”المرحلة الوسيطة”، ليس الحرية والديمقراطية، وليس دولة، ولو طائفية، إن المرغوب هو فوضى عارمة وعدم استقرار مزمن، لأن ذلك يحقق استقرار مصالح أطراف فاعلة، ومصالح إسرائيل أهمها. هناك الآن المنظور، وهو أن المنطقة تعيش فوضى وتعيش صراعات، قد لا يمكن فهم كل أبعادها، لكنها ستستمر زمنا قبل أن تدفع إلى مستقر جديد. هناك المتوقع، وبالنظر إلى أعداد اللاجئين السوريين والعراقيين والفلسطينيين، وهم اليوم بالملايين في الأردن وفي لبنان وتركيا والعراق، يعطي ملامح صورة زادها ظهور تنظيم ”داعش” وربطه بالسنة وضوحا، صورة تؤشر لاحتمال قوي لـ«انتقال سكاني” واسع النطاق، وإعادة توزيع هؤلاء اللاجئين على أساس طائفي وقومي، أي سنة وشيعة وعرب وأكراد وقوميات أخرى. لهذا فإن الفوضى الحالية، سواء توصلنا إلى القراءة السليمة للاستراتيجية المطبقة والمتوخاة أو لم نتوصل، فإنها تنهي وضعا وبكلفة عالية جدا، تعيد المنطقة إلى حقيقة انحطاطها وعجزها، وتُطلِّق نهائيا أوهام الدولة الوطنية وأوهاما أخرى كثيرة، خاصة منها الأوهام ذات الطابع الإيديولوجي، إسلاميا كان أو علمانيا، وتعيد النخب كلها إلى نقطة بداية. لهذا يمكن أن نستنتج، بغض النظر عن تفاصيل الأحداث وبغض النظر عن حقيقة الاستراتيجية المطبقة أو الغايات المنشودة من قبل الفاعلين الدوليين والإقليميين، قلت يمكن استنتاج أن: العرب ليسوا من الفاعلين، بما في ذلك الذين يتوهمون، في الخليج أو في شمال إفريقيا، العرب مفعول بهم. الفاعلون في المنطقة هم إسرائيل ونسبيا إيران وتركيا. الجغرافية السياسية الموروثة عن خرائط الاستعمار البريطاني الفرنسي انتهت بشكل واسع في المشرق، ولا أحد يدري بالضبط على أي شكل ستستقر، بل التوزيع السكاني القائم حاليا متوقع له، كما سبقت الإشارة، أن يعرف تحولا كبيرا. ويمكن أن نستنتج أن أوهام الاستقلال والنهضة، بأي منطق أو تبرير عقائدي أخذت، اتضحت، وهذا الأهم. مازال الاتجاه الطاغي هو اتجاه نحو مزيد من الانحطاط مزيد من الفوضى ومزيد من الدماء. إن التفاؤل الوحيد الذي يمكن أن نأمله هو أن نهاية الأوهام قد تكون بداية مراجعات جوهرية أساسية لدى النخب كل النخب. نعم واضح اليوم أن الرغبة في الوحدة انتهت إلى التشرذم وأن الرغبة في الحرية والديمقراطية انتهت إلى الفوضى وأن الحلول كل الحلول، أو على الأقل ما كنا نتوهم أنه حلول، ظهرت قاصرة حينا وخاطئة أحيانا كثيرة. ويمكن أن نستنتج بوضوح كامل أن الإشكالية الحقيقية ليست في صراع إيديولوجي إنما هي صراع ذاتي جماعي من أجل بناء إطار مستقر لممارسة الحرية وبناء نهضة جديدة، وهذا لا يمكن أن يقوم من غير توافق من نوع جديد يتجاوز أوهام الإيديولوجية، باسم الأصالة أو باسم الحداثة، لأنها ليست الإشكالية الأساسية اليوم، فالإشكالية هي الوجود الذاتي الجماعي. هناك ضرورة لمواجهة جماعية مع إستراتيجية تتلاعب بالجغرافية وتتلاعب بالدين وبأذهان الناس، لهذا لابد من مراجعات عميقة هادئة لكل مكونات الواقع ووضع رؤى جديدة تقوم على توافق واسع على هوية وعلى إطار ينظم الهوية ويخدمها ويقودها. الغاية هي التغيير وليس الإيديولوجيا، وهي بناء توافق فكري ومعرفي قبل التوافق السياسي وهي بناء دولة المواطنة لأنها السبيل للتخلص من الاستعمار ومن الانحطاط.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات