تُعرف المعاجم العربية الحديثة البهلول بالأحمق والمعتوه، بيد أن أصل الكلمة يدل على الشخص الضحاك الجامع لصفات المرح والخير. ويرى عمر عبد العزيز أن البهلول هو ذاك الذي يتحدث بـــ ”كلام من كلامنا وليس من كلامنا”. وبهذا المعنى يكون البهلول سرائريا لا نرتقي لمستواه. وفي رواية أخرى يُقال إن البهلول هو الشخص الطيب الذي يصدق كل ما يقال له أو يسمعه. وسوق البهاليل يكتنز هذه المعاني المتباعدة. فالبائع يعتبر الزبون بهلولا بالمعنى الأخير الذي أشرنا إليه، بينما الزبون يعتبر البائع بهلولا بالمعنى الذي صاغه عمر عبد العزيز؛ أي الشخص الذي خصه الله تعالى بقدرات غير طبيعية.سجل المناضل الجزائري المرحوم، قاده بوترن، في مذكراته الموسومة بـ ”قدور: طفل جزائري شاهد على بدايات القرن العشرين”، أن شيخا كان يجلس في مقهى مختلط يجمع الأوروبيين والجزائريين في مدينة البيض قبل اندلاع ثورة التحرير. ويطلب من النادل أن يأتيه بجرعة من المشروب الكحولي ”باستيس” مع قارورة من الماء. فيضيف الماء إلى كأس ”الباستيس”. فيفتح المارة أفواههم دهشة وذهولا من قدرات الشيخ الساحرة وبركاته العجيبة التي تحول الماء إلى حليب! فشاع عنه أنه صاحب معجزات. وبهذا يكون المارة قد دخلوا سوق البهاليل دون قصد، وبعضهم تحول إلى عنصر نشيط فيها. قد تبدو هذه القصة للبعض مسلية لكنهم لا يصدقونها. وهذا يعنى أنهم يشكون في ما دوّنه كاتب السيرة الذاتية. ويسأل البعض الآخر كيف تنطلي هذه الحيلة البسيطة جدا على أشخاص يملكون عقلا يفكرون به؟العبرة من القصة المذكورة أن سوق البهاليل كان موجودا منذ الأزل، وتطور أكثر في حياتنا اليومية مستفيدا من التكنولوجيا الحديثة. ألم تسمعوا بذلك الذي سلم أمواله إلى ”تاجر كبير” في هذه السوق قصد توليدها لتصبح ملايير الدينارات أو الدولارات، أو ذاك المريض الذي قاده اليأس من الشفاء إلى أحد ”التجار” الناشطين في هذه السوق الذي يدعي علاج كل الأمراض عبر قناة تلفزيونية؟الصحافي ”فادي عزام” قرر دخول هذه السوق من باب المهنة. فاتصل بأرقام الهواتف الثمانية المكتوبة في أسفل شريط شاشة قناة ”الحقيقة”. فأجابه صوت نسائي يزعم أنه الدكتورة ابتسام. فسألته عن مشكلته. فشكى لها سرطان الدم وهبوطا في الضغط. فجاء الجواب دون تردد: الجرعة الأولى تكلفك ما قيمته 158 أورو. والدواء يصلك بمجرد تحصيل المبلغ المطلوب. وسألها الصحافي: ألا يحتاج الأمر إلى مقابلة أو فحص. فأتى الرد جازما: لا داعي لذلك. فأعاد السؤال مرة أخرى: وما هو هذا الدواء؟ فجاء الرد: زيت زيتون وعسل وحبة البركة، وأشياء أخرى، مع شريط مسجل بصوت الدكتور صاحب المعجزات فيه الرقية الشرعية. وهل الدواء صالح للداءين؟ فأجابت: نعم يعالج الاثنين. ويتوسل الصحافي قائلا: وماذا لو اكتفيت بالدواء دون الشريط، فهل ينخفض السعر؟ ويأتي الصوت عبر الهاتف مستنكرا: سيضعف مفعول الدواء، وأسعارنا ثابتة في كل الحالات! يعيد الصحافي الكرة مرة أخرى، ويتصل برقم مختلف بالعيادة ذاتها، ويدعي إصابته بفشل كلوي. وتأتي الإجابة مطابقة للأولى تقريبا. لماذا تقريبا؟ لأن اسم الطبيبة تغير. واطلع على الأسعار المعتمدة للأدوية في ”هذه العيادة”: مائة أورو للجرعة الأولى لمقاومة تساقط الشعر، و158 أورو للجرعة الأولى لعلاج مرض السرطان- لا يهم نوعه، والمبلغ نفسه تقريبا لفقدان المناعة المكتسبة والفشل الكلوي. لم يكتف الصحافي بهذا القدر من الأسئلة، بل راح يسأل جامعة ”دنفر” الأمريكية التي يدعي صاحب المعجزات أنه تخرج منها بشهادة دكتوراه في الطب البديل. ليكتشف أنها لا تدرّس الطب البديل، ولا الطب أصلا!إن انتشار سوق البهاليل تم بفضل ”قناة الحقيقة” وشبيهاتها التي توظف مجموعة من الممثلين، يقوم كل واحد منهم بتمثيل دور المصاب بمرض معين، ويشيد بمعجزات الشيخ في شفائه منه. إن انتشار هذه السوق صادر الأسئلة التالية: لماذا تزايد عدد القنوات التلفزيونية المشابهة لقناة ”الحقيقة” في الفضاء السمعي البصري العربي؟ ولماذا يسمح لمن هب ودب ببيع ما يضر الصحة العامة باسم الطب البديل؟ ولماذا يتدفق البشر على العيادة التي تروج لها القنوات التلفزيونية الشبيهة بقناة ”الحقيقة”؟ ولماذا يختفي النقاش التلفزيوني عن وجود مثل هذه القنوات؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة يقدم أعظم درس في علمي الاجتماع والنفس يساعدنا على فهم المجتمع الذي نعيش فيه.
مقال مؤرشف
هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.
تسجيل الدخول باقة الاشتراكات